المفهوم العملي للتوحيد

﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (آل عمران:2).

لماذا يأتي التوحيد دائماً في قائمة الخطابات المتعلقة بالله سبحانه؟
ما العلاقة بين التوحيد والحياة والقيّوميّة؟
ما معنى الحياة والقيّوميّة وما دلالتهما؟

عندما يُذكَر لفظ الجلالة يعرَّف بأنه ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وكأن سائلاً يسأل عن معنى ذلك اللفظ فيأتيه الجواب بتلك الطريقة من التعريف، وذلك فيه إشارة كافية إلى أن أهم ما يجب على المؤمن معرفته عن الله سبحانه أنه واحد لا شريك له، لدرجة أن ذلك أصبح الرسالة الأساس لكافة الأنبياء والرسل عبر التاريخ الإنساني، حيث قال سبحانه في مطلع سورة الأنبياء﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (1).

بالتالي لو سألك سائل عن الله سبحانه: ماذا يعني ومن هو؟ تجيب بأنه الواحد الذي لا شريك له.

مع العلم بأن التعريف هنا جاء على نحو ذكر الصفة، أي أن التوحيد ذُكِر على أنه صفة لله عز وجل لا أنه معرِّف، ومع ذلك فإن هذه الصفة الملازمة بحسب الظاهر أُرِيدَ منها تعريفُ الإله للخلق.

ومع ذلك يبقى السؤال قائماً، لماذا التوحيد وليس غيره؟
هل لذلك دلالات عقائدية خاصة؟
وما أثر ذلك على حياة الإنسان المؤمن خاصة؟

في الحقيقة التوحيد هو مقوِّم العبودية الصحيحة بشرط أن يكون تاماً، ولذلك فإن  الشرك يُخرِج الإنسان عن العبودية، يقول تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (2)، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (3). وهذه الرتبة للتوحيد لا تصدق على جميع الأسماء والصفات الإلهية، فالرحمة مثلاً من صفات الله الكبرى، لكن لو أن مؤمناً لم يصل به إيمانه إلى حد اليقين بالرحمة الإلهية فإن ذلك وإن عُدّ منقصةً وضعفاً في الإيمان، إلا أنه لا يُخرِج المؤمن عن العبودية، بعكس ما لو كان شاكاً في التوحيد، فإنه لو كان شاكاً أن الإله واحد أو أكثر وأن المتصرف في الكون واحد أو أكثر لا يصبح مؤمناً من رأس ولا يصدق عليه مفهوم العبودية، ولذلك اشترط علماءُ الكلام اليقينَ في التوحيد.

وما يقال بالنسبة للرحمة يقال بالنسبة لغيرها كالعزة بل والعدالة، وإن كانت النسبة تختلف بينها من ناحية القوة والضعف، باعتبار أن الشك في العدالة إتهام لله عز وجل بالظلم، بينما الشك في الرحمة لا يعني إلا عدم الاطمئنان إلى التجاوزِ عن المذنبين في الآخرة ورعايتِهم في الدنيا.

لهذا فالتوحيد يكون المقوِّم الأساس لمفهوم العبودية، ومن دون اليقين به يكون الاعتقاد بالله سبحانه ليس ناقصاً فحسب وإنما معدوماً، ولأهمية هذا الاعتقاد اليقيني فإن الأمر فيه لا يتوقف عند البعد النظري، وإنما يتجاوز إلى الحياة العملية للإنسان، فيجب عليه أن لا يعتمد إلا على الله سبحانه وتعالى في سائر أموره، لكن الخلل في المجال العملي لا يرقى إلى الخلل في المجال النظري، لأن الشك في التوحيد نظرياً خروج عن العبودية وليس اعتقاداً من أصل، بينما الخلل في المجال العملي ضعف في الإيمان، وهو بحسب الظاهر ما تتضمّنه الآية المباركة في قوله سبحانه ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (4). وسيأتي مزيد كلام في هذا الشأن لاحقاً.

مفهوم الحياة

الحياة بالنسبة لله سبحانه لا كالحياة بالنسبة للبشر، لقوله سبحانه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (5)، فكل ما يتعلق بحياته جلت قدرته لا يمكن مقايستها ولا تقريب معناها بشيء من حياة المخلوقات، لا من حيث النشأة ولا الكيفية، فهي حياة لم تُعْطَ من أحد، ولا كان لها بداية ولا يكون لها نهاية، أي أنها لا تبدأ من عدم ولا تؤول إلى عدم، ولهذا فهي وجود أزلي سرمدي، ولعل كونه سرمدياً – أي أبدياً لا نهاية له- راجع لكونه أزلياً – أي لا بداية له-، فلأن وجوده لا يستند إلى فعل فاعل بل ولا لأي شيء وإنما هو وجود بذاته وفي ذاته، لذلك لا يمكن أن ينعدم أو تكون له نهاية، وهكذا عُرِّفَتْ الحياة في كلام أهل البيتعليه السلام، فقد جاء في معتبرة عبد الأعلى عن الإمام الكاظمعليه السلام:(إن الله لا إله إلا هو كان حياً بلا كيف ولا أين ... كان عز وجل حياً بلا حياة حادثة)  (6).

ويمكن توجيه ذلك أيضاً بأن (الحي) صفة مشبَّهة، وهي في اللغة تدل «على معنى قائم بالموصوف بها على وجه الثبوت لا على وجه الحدوث» (7) ولذلك «لا زمان لها لأنها تدل على صفات ثابتة، والذي يتطلب الزمان إنما هو الصفات العارضة» (8). فالثبات يعني أنها صفة ملازمة لا تنفصل عن الموصوف، وعدم المدخليَّة للزمان يعني أنها لا تعرض على الموصوف في زمان ما، -كما هو شأن اسم الفاعل الذي يحتاج إلى زمان يعرض فيه كـ(ضارب) فإنه يحتاج إلى زمان يقع فيه الضرب-، وبالتالي فكونها ملازمة وغير عارضة يعني أنها لم تعط من أحد، ووجودها ملازم لوجود الموصوف، وحيث أن الموصوف هو الله سبحانه الدائم الأزلي، فإن الحياة بالنسبة له عز وجل تكون دائميَّة أزلية لا تنفك عنه ولا تعرض عليه ولم تعط له سبحانه من أحد قط.

إذاً فالحياة هي الوجود الدائم لله عز وجل، لكن لا يمكن قياس كيفيته بالمقاس البشري، بل هو خلاف ذلك تماماً لعدم وجود شيء يقاس عليه لأن ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، هذا غاية ما يستطيع العقل إدراكه، لهذا فالمهم هنا ما يترتب على هذه الصفة من آثار تتعلق بحياة الإنسان بنحو خاص والوجود بكامله بنحو عام.

وبناء عليه يمكننا أن نسأل هنا: ماذا تعني الحياة الدائمة لله سبحانه بالنسبة لنا كبشر، وبالنسبة لبقية المخلوقات؟

هذا هو المهم وسنقف على تفاصيل هذه الإجابة لاحقاً، إذ في ثنايا الآيات المباركة في الكثير من السور القرآنية ما له علاقة وثيقة بهذا الأمر. لكن يمكن لنا هنا التأكيد على أمور، أهمها ما أشار إليه السيد السبزواري من أن هذه الصفة تعني أنه «هو الحي فقط وغيره في معرض الزوال» (9)، فبالرغم من أن الوصف لا مفهوم له، ما يعني أن القول بأن الله عز وجل حيٌّ لا يلزم منه عدم الحياة للآخرين، وإنما هو تقرير وتأكيد على الحياة بالنسبة لله سبحانه، وأما ما عداه فذلك القول لا يشمله لا من حيث النفي ولا الإثبات.

لكن مع ذلك فإن الحي تعني أنها صفة ملازمة لا يمكن أن يكون لها نقيض وإلا لم تكن كذلك، فلو كان لها نقيض كالفاني لكان في إطلاق الحي تهافت، أي لا يمكن أن يوصف الله سبحانه بالحي مع إمكان فنائه، فوصفه سبحانه بالحي تعني أنه حيٌّ على نحو الدوام ولا تنفك الحياة عنه أبداً.

هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن وصف الخالق جلت قدرته بالحي إنما هو على نحو القصر والإختصاص، ولنقل على نحو التمايز بينه سبحانه وبين غيره، فهو يعني إما بأنه الحي فقط، أو أن حياته لا كحياة غيره، فعندما تقول الآية (الحي) فالمراد (هو الحي) كما نصَّتْ آية أخرى حيث قال سبحانه ﴿هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (10)، وهو نظير وصفنا لإنسان بالشجاعة حين نقول (هو الشجاع)، وهو تعبير يفيد إما أنه هو الشجاع فقط أو أن شجاعته تختلف عن شجاعة غيره وتتميز عليها بأمور.

ويزيد الأمر وضوحاً استخدامات الحي في القرآن الكريم عند الحديث عن المخلوقات، فالحياة بالنسبة لهم دائماً معطاة من الغير، كقوله سبحانه ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ (11)، ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ (12). كما أنها مؤقتة وتنتهي بموت كما في الآية من قوله عز وجل ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ (13)، إذ أن التعاقب يفيد عدم الدوام للإثنين، بينما تقول الآية عن الحياة بالنسبة لله عز وجل ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ (14).

مفهوم القيّوميّة

قبل أن نتكلم عن هذا مفهوم يجب أن نلتفت في البدء إلى الصيغة التي نطقت بها الآية، ذلك أن (القيوم) صيغة مبالغة وهي تفيد من حيث المعنى أكثر مما تفيده صيغة اسم الفاعل (القائم)، وقد نطقت بالأخيرة آية أخرى في قوله سبحانه ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ (15).

و(القيّوم) أصله قيووم على وزن فيعول إلا أن الياء والواو إذا اجتمعتا وأولاهما ساكنة قلبت ياء وأدغمت الياء في الياء قياساً مطرداً، والقيام أصله قيوام على وزن فيعال ففعل به ما ذكرناه (16)، ويراد بالقيوم  المبالغة (17) والكثرة (18) في القيام، فلو أن أحداً قام مرة واحدة يقال له قائم لكن لا يقال له قيوم، أما من كان دأبه القيام فهو قيوم، لذلك فإن قيوم تعني من كان شأنه الدائم القيام.

هذا مفاد صيغة (القيّوم)، فهي تعني أن الله سبحانه وتعالى قائم على كل حال، واستخدام القرآن الكريم لصيغة (قائم) لا يتنافى مع كونه سبحانه قيوماً، لأن كل قيوم قائم وليس العكس، فأن تصف القيوم بالقائم لا يضر، لكن لا يصح أن تصف القائم بالقيوم إذا لم يكن دائم أو كثير القيام.

والمراد بالقيوم هنا ليس الوقوف أو الاستعداد مثلاً، وإنما القيام على شئ، بمعنى أنه سبحانه قائم على مخلوقاته يرعاها ويدير أمورها، كما هو صريح الآية من سورة الرعد ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ.

ومن هنا تلتقي الحياة مع القيّوميّة، فالله سبحانه حي على نحو الدوام لا تنقطع حياته أبداً، وحياته ليست بمنأى عن مخلوقاته وإنما لها انعكاس عليها من حيث أن الحياة لا تنفك عن كونه قائماً على مخلوقاته يدير شؤونها.

وبهذا تلتقي الحياة والقيّوميّة مع التوحيد، فالتوحيد لا يعني فقط الإقرار بأن الله واحد لا شريك له بنحو نظري، وإنما لابد من الإقرار بأن الله الواحد سبحانه حي ناظر لخلقه ومدير لشؤونهم، ولا يقوى على ذلك إلا هو دون سائر خلقه.

وذلك يعني أن الغيب حاضر في حياة الإنسان ومؤثر فيها، وبناءً عليه فإن التعويل على التدخل الغيبي في الشؤون اليومية الخاصة بالإنسان أمر مطلوب.


1. الأنبياء 25. 2. النساء 48 3. النساء 116 4. يوسف 106 5. الشورى 11 6. التوحيد، الشيخ الصدوق، ص141، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم. 7. جامع الدروس العربية، الشيخ مصطفى الغلاييني، ج1 ص189، المكتبة العصرية- بيروت، الطبعة الثانية عشر 1973م. 8. المصدر نفسه. 9. مواهب الرحمن، السيد عبد الأعلى السبزواري، ج4 ص250، المؤسسة الفكرية للمطبوعات- بيروت، الطبعة الثانية 1990م. 10. غافر 65. 11. آل عمران 27. 12. الأنعام 95. 13. الملك 2. 14. الفرقان 58. 15. الرعد 33. 16. مجمع البيان، الطبرسي، ج1 ص465، دار إحياء التراث العربي- بيروت، الطبعة الأولى 1992م. 17. التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، ج2 ص493، مؤسسة التاريخ- بيروت، الطبعة الأولى. 18. من هدى القرآن، محمد تقي المدرسي، ج1 ص372، دار القارئ، الطبعة الثانية 2008م.