أخبرنا الباري جلت قدرته من خلال هذه الآية المباركة عن حالين لتنزيل القرآن الكريم، الأول تنزيله بالحق، وقد سبق بيانه، والثاني ﴿مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فـ ﴿مُصَدِّقاً منصوب على الحال، وذلك يفيد أن الحال التي كان عليها القرآن عند التنزيل أنه مصدِّق لما بين يديه.

فماذا يعني التصديق؟

وما الذي بين يدي الكتاب؟

التصديق من الصدق، وهو يشير هنا إلى أحد أوجه الممارسة العملية والتطبيق الواقعي للصدق، كما أنه مرتبط بجهة خارجية. لهذا يلزم أن نقرِّرَ مفهوم الصدق حتى نقع على المقصود بالتصديق.

الصدق يتجلى في مواطن عديدة كما هو واضح في الاستعمال القرآني، أحدها الصدق في الإخبار سواء عن الماضي كقوله سبحانه ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ(1)، أو المستقبل - وهو الإيعاد-كقوله عز من قائل ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً(2)، وثانيها بمعنى الثبات في المواطن الصعبة كقوله تعالى ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (3)، وثالثها الالتزام التام بالقيم والتعاليم الدينية كقوله سبحانه ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(4).

والظاهر من كل ذلك أن الصدق يعني المطابقة مع الواقع سواء على مستوى الخطاب الشفهي أو على مستوى التطبيق العملي. فإذا تحدّث الموصوف بالصدق صدَقَ في الإخبار وفي تنفيذ ما التزم به.

أضف إلى ذلك أن الصدق في اللغة يدل على القوة والصلابة، فقد جاء في المقاييس «صدق: أصل يدل على قوة في شيء قولاً وغيره. من ذلك الصدق: خلاف الكذب، سمِّي لقوته في نفسه، ولأن الكذب لا قوة له هو باطل، وأصل هذا من قولهم: شيء صَدْق أي صُلب ورُمحٌ صَدْق. ويقال صدقوهم القتال (تصلّبوا فيه)، وفي خلاف ذلك كذَبوهم. والصِّدِّيق: الملازم للصدق. والصَّداق: صَداق المرأة، سمِّي بذلك لقوّته وأنه حقٌّ يلزم».

والقوة والصلابة تفيد هنا قوة المطابقة مع الواقع، بمعنى أن الصادق هو من يطابق قولُه الحقيقةَ النظرية والواقعَ العملي بأعلى المستويات.

وبناء على ذلك يكون معنى التصديق الصادر من جهة -وهي هنا الكتاب- نحو جهة أخرى - وهي ما بين يدي الكتاب-: المطابقة التامة لما في الكتاب من المعاني والقيم الكبرى مع ما في الجهة الأخرى من معانٍ وقيم، وذلك يفيد أموراً كثيرة منها:

صدور المعاني القديمة والجديدة من مصدر واحد وهو الله سبحانه وتعالى.

وإن كان ثمة تغاير بين القديم والجديد في بعض التفاصيل، إلا أن كل ذلك يسير في خط واحد وهو العبوديَّة لله عز وجل، وغاية ما هناك أن كلاًّ منهما مؤطَّر بزمانه، فالقرآن الكريم لزماننا، وتلك لأزمنتها، وهذا قد يفتح لنا نافذة نُطِلُّ من خلالها على جدليَّة الثابت والمتغير.

هذا هو المراد من التصديق بحسب الظاهر. ومع ذلك يأتي سؤال هام هنا أشار إليه الفخر الرازي في تفسيره(5)، ولابد أن نجيب عليه، وهو: كيف يكون القرآن مصدِّقاً للذي بين يديه بينما هو ناسخ له؟

للإجابة على هذا السؤال يلزم أن نحدد بدايةً المراد من الذي بين يدي الكتاب، ولماذا وُصِفَ بهذه الصفة ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ؟


1. آل عمران 95. 2. الفتح 27. 3. الأحزاب 23. 4. البقرة 177. 5. التفسيرالكبير، الفخر الرازي، ج7 ص137، دار الكتب العلمية-بيروت، الطبعة الأولى 1990م.