ما المقصود من الذي بين يدي الكتاب؟

لم أجد رواية بخصوص هذه الآية تعطي هذا المعنى، إلا أن عامة المفسِّرين ذهبوا إلى أن المراد جميع الكتب السماوية التي أُنْزِلَتْ على الأنبياء السابقين عليهم السلام(1) ، وهذا هو الظاهر، فالمطابقة التامة (التصديق) لقيم القرآن الكريم إنما تكون في مقابل قيم أخرى شبيهة بها، ولا شبيه لها إلا ما جاء في كتب السماء. ولكن ليس هذا فحسب، بل هناك قرائن مقاليّة منفصلة تدل على ذلك بكل وضوح، فمن الآيات المباركة قوله سبحانه ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ(2) ، فهذه الآية تدل بوضوح على أن الذي بين يدي الكتاب إنما هو من الكتب، أي الكتب السماوية.

ومن الأخبار ما جاء في الاحتجاج عن معمر بن راشد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله (وإن الله عز وجل جعل كتابي المهيمن على كتبهم الناسخ لها) (3) . فالهيمنة هنا على الكتب السماوية كما هو واضح، وهو ما يتطابق مع الآية أعلاه، حيث أن الهيمنة في الآية أيضاً إنما هي على كتب الأنبياء عليهم السلام التي بين يدي القرآن الكريم. فالهيمنة هنا والهيمنة هناك تتعلق بموضوع واحد وهو كتب السماء، أي التي بين يدي الكتاب المنزَل على النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله.

بهذا يكون المقصود من الذي بين يدي الكتاب في الآية المباركة الكتب السماوية التي أنزلت على الأنبياء السابقين عليهم السلام.

لكن لماذا وُصِفَتْ الكتب السماوية بهذه الصفة ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ؟

قال ابن عاشور بأن «جعل السابق بين يديه لأنه يجيء قبله، فكأنه يمشي أمامه»(4) ، بينما قال الطبرسي «وإنما قيل لما بين يديه لما قبله، لأنه ظاهر له كظهور الذي بين يديه»(5) ، وهو قريب من عبارة الرازي التالية «السؤال الأول: كيف سمى ما مضى بأنه بين يديه؟، والجواب: أن تلك الأخبار لغاية ظهورها سماها بهذا الاسم»(6) .

لكن لا دليل على ما ذكره الطبرسي والرازي، مع أن كون الشيء بين يدي شيء آخر يلزم منه الظهور بسبب القرب، إلا أن هذا اللازم ليس تعريفاً حقيقياً، بمعنى أن التعريف العلمي هو الذي يفسِّر المفهوم لا الذي يشير إلى لازم من لوازمه، والظهور هنا مجرد لازم من لوازم ما يكون بين اليدين، فكل ما يكون بين يديك يكون ظاهراً لك، وعلى هذا الأساس يمكن ذكر لوازم أخرى أيضاً، فما كان بين يديك يلزم منه أن يكون ظاهراً، كما يلزم منه أن يكون قريباً أيضاً، وهكذا. لكن القرب ليس تفسيراً للذي بين يدي الشيء، وهكذا الظهور. لهذا فإن تفسير الطبرسي والرازي ناقص.

وأما تفسير ابن عاشور فهو الأقرب، فالذي بين يدي الإنسان إنما هو الذي أمامه، والأمام هنا بمعنى التقدم والسبق من حيث الزمن، لا من حيث المكانة والشأن، مع أن الذي في الأمام في الأصل يُعّدُّ الأفضل شأناً ومكانةً، لكن هنا لا يراد ذلك، للقرائن الصارفة، حيث دلَّتْ الآيات الأخرى على هيمنة القرآن على الكتب السابقة، كما في الآية المذكورة سلفاً﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ، والهيمنة دليل على علو الشأن، فالقرآن أعلى شأناً من بقية الكتب السماوية.

بل قد تكون لهذا التركيب ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ إيحاءات أكثر تواضعاً بالنسبة للكتب السابقة وأكثر علوّاً بالنسبة للقرآن الكريم، باعتبار أن الذي يجلس بين يدي الإنسان يكون أقل شأناً منه، كما هو المألوف، لأن هذه الجلسة شبيهة بجلسة المتعلِّم أمام أستاذه، وقد يؤيد ذلك ما جاء بعد هذا التركيب من التأكيد على الهيمنة ﴿وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ. وسنتعرض لاحقاً لمفهوم الهيمنة عند تفسير سورة المائدة.

إذاً هذا ما يعطيه قوله تعالى ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ من معاني ودلالات. بعد هذا يأتي السؤال السابق المطروح من قبل الرازي: كيف يكون القرآن مصدقاً للكتب السماوية مع أنه ناسخ لها؟

أجاب الرازي عن ذلك بالقول «إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثه، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن، كانت موافقة للقرآن، فكان القرآن مصدقاً لها، وأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها، لأن دلائل المباحث الإلهية لا تختلف في ذلك، فهو مصدق لها في الأخبار الواردة في التوراة والإنجيل»(7) .

والإجابة نفسها تقريباً كررها الشيخ ناصر مكارم، فقد جاء في الأمثل «ليس في الآيات المذكورة دلالة على تصديق جميع محتويات التوراة والإنجيل، بل دلالتها تقتصر على التصديق العملي لما جاء في الكتب الموجودة بيد اليهود والنصارى بشأن النبي الخاتم وكتابه. هذا، إلى جانب وجود آيات عديدة في القرآن تتحدث عن تحريف اليهود والنصارى لآيات التوراة والإنجيل»(8) .

وكلا الإجابتين تطابقا الواقع، فالتصديق في الأصل وإن كان يعني المطابقة التامة مع ما جاء في الكتب السابقة حتى في الجزئيات والتفاصيل، إلا أن القرائن المنفصلة دلَّتْ على خلاف ذلك، خصوصاً الآيات الدالة على التحريف الذي طال التوراة والإنجيل، والأخبار المعتبرة الدالة على نسخ بعض الأحكام، وسيكون لنا حديث حول هذا الأمر في بحوث لاحقة.

لهذا فالتصديق يكون في المجالات التالية:

في القيم الكلِّيَّة، كالتوحيد والعدالة.
في الأدلة الكبرى الدالة على القضايا الغيبية ورسالات الأنبياء عليهم السلام.
فيما لم يثبت نسخه، وما ثبت عدم نسخه، كما في قوله سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (9) .

وما أشبه ذلك، وخروج بعض التفاصيل لا يمنع من صدق مفهوم التصديق بالمعنى الواسع الذي سبق بيانه.

تبقى إشارة واحدة أكّد عليها الشوكاني في تفسيره، بالنسبة للام في قوله سبحانه ﴿لِمَا، حيث قال بأنها للتقوية(10) . وذلك فيه إضافة تفيد قوة التأكيد على المعنى الذي يعطيه مفهوم التصديق للكتب السماوية التي بين يدي القرآن الكريم.


1. أنظر مجمع البيان، مصدر سابق، ج2 ص524. الميزان، مصدر سابق، ج3 ص8. من هدى القرآن، مصدر سابق، ج1ص373. التفسير الكبير، مصدر سابق، ج7 ص137. الجامع لأحكام القرآن، مصدر سابق، ج4 ص5. تفسير المنار، مصدر سابق، ج3 ص155. تفسير التحرير والتنوير، مصدر سابق، ج3 ص9. 2. المائدة 48. 3. الإحتجاج، الشيخ الطبرسي، ج1 ص57، دار النعمان للطباعة والنشر- النجف الأشرف، 1386هـ. 4. التحرير والتنوير، مصدر سابق، ج3 ص9. 5. مجمع البيان، مصدر سابق، ج2 ص524. 6. التفسير الكبير، مصدر سابق، ج7 ص137. 7. المصدر نفسه. 8. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج1 ص187. 9. البقرة 183. 10. فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني، ص200، دار المعرفة- بيروت، الطبعة الأولى 2007م.