إن إنزال الكتابين - التوراة والإنجيل- كان ﴿مِنْ قَبْلُ، أي من قبل نزول القرآن الكريم، والقبليّة هنا من حيث الزمن، لا من حيث المكانة والشأن، ولا من حيث العلم الإلهي.

والبناء هنا على الضم ﴿قَبْلُ دليل على الحذف، أي وجود مضاف إليه محذوف، تقديره من قبل تنزيل الكتاب، أي أنزل التوراة والإنجيل من قبل تنزيل الكتاب وهو القرآن.

والوجه في ذلك بحسب ما يقرره أهل اللغة أن ﴿قَبْلُ في مثل هذه الاستعمالات «غاية مبني على الضم لأنه قد حذف منه، وهو ظرف يدخله النصب والخفض في حال سلامته، فلما اعتلّ بالحذف اعطى حركةً لم تكن تلحقه، وقيل أعطى الضمة لأنها غاية الحركات»(1) .

وتوضيح ذلك أن هذا الظرف وأشباهه كالذي ورد في قوله سبحانه ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ(2) ، في الأصل هي معرَبَة، ولكن في حال النصب والجر فقط، وفيما إذا كانت سالمةً أي غيرَ معتلَّة، ويراد بالسلامة هنا إذا كان المضاف إليه غير محذوف، والإعتلال إذا كان المضاف إليه محذوفاً، ومن أمثلة السلامة في حال الجر قوله سبحانه وتعالى ﴿مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ(3) ، ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ (4) ، وفي حال النصب قوله عز وجل ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ(5) ، ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا(6) ، ففي هذه الأمثلة بأجمعها ذُكِرَ المضاف إليه (الفتح، ميثاقه، موته، موتها). ومن أمثلة الاعتلال ما ورد في الآية الرابعة من سورة الروم المذكور أعلاه، والمقطع القرآني الذي نحن بصدد بحثه الآن، وفيها لم يُذْكَر المضاف إليه بعد الظرف (قبل، بعد)، ولهذا تكون معتلة، أي محذوفة المضاف إليه، فالمضاف إليه يكون منوِيّاً لكنه غير مذكور.

وفي حال السلامة يكون الظرف منصوباً أو مجروراً بحسب موقعه من الجملة، وأما في حال الاعتلال فيُبْنى على الضم، أي ما بُنِيَ على الضم إلا لأنه قد حُذِفَ منه المضاف إليه.

وقد ذهب صاحب التحرير إلى القول بأن قوله تعالى ﴿ مِنْ قَبْلُ قيدٌ قُدِّمَ على قوله سبحانه ﴿هُدىً لِلنَّاسِ للاهتمام به، وذلك حتى «لا يُتوهَّم أن هُدى التوراة والإنجيل مستمر بعد نزول القرآن. وفيه إشارة إلى أنها كالمقدمات لنزول القرآن، الذي هو تمام مراد الله من البشر ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام(7)  فالهدى الذي سبقه غير تام»(8) .

وقد عنى بذلك أن الآية تنص على أن الكتابين كانا من قبل نزول الكتاب فقط هدى للناس، أما الآن فليسا كذلك، ويُفهَم ذلك من تقديم ﴿ مِنْ قَبْلُ على ﴿هُدىً لِلنَّاسِ، لأن مثل هذا التقديم يفيد التأكيد على المقدَّم والإشعار بمستوىً من الاهتمام به. فكأن الآية تريد أن تلفت نظر القاريء بأن ذلك الهدى إنما هو : من قبل فقط وليس دائماً.

وبالتالي فإن كونهما هدىً من قبل، يجعلهما بشكل تلقائي بمثابة المقدمة لنزول القرآن الكريم، ودليل على أن القرآن هو الهدى التام والدائم، وأما هدى الكتابين فناقص لأنه خاص بزمن معين.

وبالطبع فإن هذا الاستنتاج مبني على القول بأن قوله تعالى ﴿هُدىً لِلنَّاسِ متعلق بالكتابين فقط، من دون أن يكون شاملاً للكتاب وهو القرآن. وإلا فعلى القول الآخر الناص على شمول الهدى للكتابين والقرآن الكريم، لا يبقى معنى لذلك الاستنتاج. وهذا ما سنحققه في العنوان التالي.


1. إعراب القرآن، لأبي جعفر أحمد النحّاس، ج1 ص202، عالم الكتب- بيروت، الطبعة الثالثة 1988م. 2. الروم 4. 3. الحديد 10. 4. البقرة 27. 5. النساء 159. 6. البقرة 164. 7. آل عمران 19. 8. التحرير والتنوير، مصدر سابق، ج3 ص10.