تجيب الآية على هذا السؤال قائلة:﴿هُدىً لِلنَّاسِ. لكن أي الكتب السماوية التي تكون هدى للناس، أي هل يعود هذا المقطع إلى خصوص التوراة والإنجيل، أم إلى الكتاب أيضاً -القرآن-؟

وبتعبير آخر: هل أن المراد من هذا المقطع أن الله سبحانه أنزل التوراة والإنجيل هدى للناس، أم نزّل الكتاب وأنزل والتوراة والإنجيل هدى للناس، وبالنتيجة: هل أن التوراة والإنجيل هدى للناس، أم أن الكتاب والتوراة والإنجيل بأجمعها هدى للناس؟

ذهب بعض المفسرين إلى القول بأن الهدى في الآية صفة لجميع الكتب السماوية المذكورة، وهي الكتاب والتوراة والإنجيل، فأما رجوعها للتوراة والإنجيل فواضح بسبب التعاقب وعدم وجود فاصل بين الصفة ﴿هُدىً وبين الموصوف ﴿التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ، ولذلك لا يمكن إخراج الكتابين عن شمول الهدى لهما إلا بقرينة قوية، وإن ادّعاه بعض كما سيأتي.

وأما شمولها للكتاب -القرآن- فلسببين:

وصف القرآن بالصفة نفسها ﴿هُدىً في سورة البقرة حيث قال سبحانه ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (1)، وفي سور أخرى.

ما يظهر من سورة الفاتحة أن الهدى هدف أسمى لجميع رسالات السماء، ولهذا أصبح طلباً منشوداً لكل إنسان بغض النظر عن ديانته، حيث قال سبحانه ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (2) ، فإذا كان الهدى بهذه المنزلة فلا يعقل أن يخلو منه القرآن، بل هو ميزة من ميزاته، ولذا قال تعالى في معرض كلامه عن الثمار العملية للقرآن ﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (3).

هذا ما يظهر من عبارة بعضٍ من المفسرين(4)  وقد وصفهم الرازي بالأكثرين(5) ، وفي مقابلهم جمعٌ قالوا باختصاص الصفة هنا بالكتابين فقط(6) ، وبذلك يكون القرآن قد وُصِفَ بأنه حق، والكتابان وُصِفا بأنهما هدى(7) . ولا يمنع من ذلك عند أصحاب هذا القول وَصْفُ القرآن في سورة البقرة بأنه ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، لأن الأمر يعود لمساحة الإنتفاع ونوعيّة المخاطَب بحسب ما يُفْهَم من عبارة الرازي في قوله «إنما قال ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ لأنهم هم المنتفعون به، فصار من هذا الوجه هدى لهم لا لغيرهم، أما ههنا فالمناظرة كانت مع النصارى، وهم لا يهتدون بالقرآن، فلا جرم لم يقل ههنا في القرآن إنه هدى، بل قال إنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون في صحتهما ويدعون بأنا إنما نتقول في ديننا عليهما، فلا جرم وصفهما الله تعالى لأجل هذا التأويل بأنهما هدى»(8).

وفي مقابل هذين القولين قال بعض من المفسرين بأنه قوله تعالى ﴿هُدىً لِلنَّاسِ حالٌ آخر للقرآن، فالحال الأولى ﴿مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وما نحن فيه حالٌ ثانية، ولازم ذلك كون الهدى في الآية صفةً للقرآن فقط ولا يشمل الكتابين، وهو صريح القرطبي في تفسيره(9) ، ولذلك فهو يعتبر الآية من سورة البقرة ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ حاكمةً ومفسِّرةً للآية هنا ﴿هُدىً لِلنَّاسِ، فالناس هنا يراد منهم خصوص المتقين لا مطلق الناس، يقول «قال ابن فورك: التقدير هدى للناس المتقين، دليله في البقرة ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، فرد العام إلى ذلك الخاص. وهدى في موضع نصب على الحال»(10) .

وإن كان لكل قول من الأقوال الثلاثة وجه، إلا أن الأقرب عدم الاختصاص بأيٍّ من الكتب الثلاثة، وإنما الشمول لها جميعاً، للقرائن التالية:

كون الهدى للناس، وليس لفئة خاصة أو أمة بعينها، لأن الناس جمع محلّى باللام وهو مما يفيد العموم، وبهذا يكون المراد عامة الناس من جميع الديانات، ولا قرينة واضحة تصرف هذا العموم إلى أي معنى خاص، سواء كان الكتابين أو القرآن. ومجرد المجاورة للكتابين لا يفيد التخصيص بعد تصدير الآية بالحديث عن القرآن الكريم وعظمته، بل لو قيل بأن التخصيص بالقرآن فقط أرجح لكان أوفق، نظراً لأن الآية المباركة في مقام الإفصاح عن مميزات القرآن وخصائصه النظرية والعملية. ومع ذلك لا نقول بهذا التخصيص أيضاً لأن التعبير بالناس يفيد عامة المكلفين المخاطَبين من قِبَل السماء. وما أفاده القرطبي من كون ﴿لِلْمُتَّقِينَ في سورة البقرة مخصِّصاً ﴿لِلنَّاسِ في سورة آل عمران غير مفيد، إذ في سورة البقرة الحديث صريح عن القرآن، بينما هنا ليس كذلك، فهناك خلاف في تشخيص المراد، واحتمال اختلاف الموضوع في الآيتين، وهو ما نبَّه إليه الرازي قبل قليل، ففي البقرة الموضوع خصوص المسلمين، بينما هنا المسلمون وأهل الكتاب، هذا إضافة إلى أننا لو عملنا بهذه المنهجية في التخصيص للزم من ذلك تخصيص أكثر العمومات القرآنية، فبمجرد الوقوع على لفظ خاص في السورة نفسها أو في سورة أخرى قريب من جهة من الجهات من لفظ عام نلجأ للتخصيص، وهذا ما لم يقل به أحد، إذ لابد أن يكون دليل المخصِّص أقوى ظهوراً من دليل العام حتى نتمكن من التخصيص، وأما مجرد الإحتمال فلا يُركَن إليه.

كان الحديث في الأصل في هذه الآيات عن مميزات القرآن الكريم، فتم في الآية الثالثة الحديث عن القيمة النظرية له ﴿بِالْحَقِّ، والعلاقة بينه وبين سائر كتب السماء ﴿مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، والظاهر أن ﴿هُدىً لِلنَّاسِ القيمة العملية للقرآن الكريم، ولازم ذلك بالطبع كون القرآن فقط هدى للناس في زمن نزوله، لكن لأن الخطاب بحسب الظاهر موجَّهٌ أيضاً لأهل الكتاب بدليل ذِكْر الكتابَيْن لذلك أصبحا مشمولَيْن للصفة، وكأن الآية تخاطب أهل الكتاب: كما أن الكتابين هدى للناس فكذلك القرآن.

فالهدى شامل للكتب الثلاثة، مع العلم بأن الغاية النهائية لهذا الخطاب التأكيد على أن القرآن الكريم فعلاً هدى لجميع الناس بلا استثناء، إذ لا مجال للتعبّد بالكتابين بعد نزول القرآن، وسأشير قريباً إلى نكتة ترتبط بهذا المبحث.


1. البقرة 2. 2.الفاتحة 6. 3.المائدة 15. 4.التفسير التوحيدي، مصدر سابق، ج1ص228. ومجمع البيان، مصدر سابق، ج2 ص524. تقريب القرآن إلى الأذهان، مصدر سابق، ج1 ص311. 5.التفسير الكبير، مصدر سابق، ج7 ص140. 6.تفسير المنار، مصدر سابق، ج3 ص160. والتحرير والتنوير، مصدر سابق، ج3 ص10. 7.التفسير الكبير، ج7 ص139. 8.المصدر نفسه. 9.وذكره الطبرسي في مجمع البيان أيضاً، ج2 ص525. 10.الجامع لأحكام القرآن، مصدر سابق، ج4 ص6.