معنى ﴿النَّاس

بناء على ما وصلنا له من نتيجة حول مساحة الصفة، وأن الهدى في قوله سبحانه ﴿هُدىً لِلنَّاسِ صفة للكتب السماوية الثلاثة المذكورة، يكون المقصود من الناس هنا سائر البشر من أهل الديانات الثلاث وغيرهم، بمعنى أن الكتب السماوية ما أُنْزِلَتْ في الأصل إلا لتكون هدى لجميع البشر بغض النظر عن انتماءاتهم، ولكن بالمعنى الذي ذهب إليه صاحب مجمع البيان من أن الكتب الثلاثة ليست في عرض واحد في جميع الأزمنة، بل «ليهتدي أهل كل كتاب بكتابه وأهل كل زمان بما أنزل في زمانه»(1) .

وثمة من ذهب إلى الاختصاص باليهود والنصارى تبعاً للقول بكون الصفة متعلقة بالكتابين فقط، فالزمخشري يقول «أي لقوم موسى وعيسى»(2) ، وبهذا قال الشعراوي إلا أنه أضاف بأن ما صدَّقه القرآن من الكتابين يكون هدى للمسلمين أيضاً، لا جميع ما جاء فيهما(3) ، وتَرَدَّد ابن عاشور بين القول بأن اللام في قوله سبحانه ﴿ لِلنَّاسِ للعهد فيكون المراد من الناس المخاطَبين بالكتابين فقط وهم اليهود والنصارى، والقول بأنها للاستغراق فيكون المراد المخاطَبين بالكتابين وغيرهم ولكن بالالتزام بما أضافه الشعراوي(4) .

والأقرب -بحسب ما التزمنا به سلفاً- كون اللام للاستغراق، فالكتب السماوية هدى لجميع الناس، بمعنى أن الهدف من إنزالها هداية البشر، لأنها كلام الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يكون بعضه هدى والبعض الآخر ضلالاً، فالتوراة عندما أُنزلتْ كانت هداية للجميع، وكذلك الإنجيل والقرآن الكريم، لكن ذلك لا يلزم منه أن تكون جميع التشريعات مطلوبة من قبل الله عز وجل في كل زمان، لكنها حين كانت مطلوبة كانت بلا شك هدى لجميع البشر، أما وقد رُفِعَتْ واستُبدِلتْ بغيرها فالهدى الفعلي في غيرها.

وبناء على ذلك فما بقي منها مطلوباً بنص قرآني أو خبر صحيح فهو هدى، وحُكْمُه حكمُ القرآن الكريم ولو في الجملة، إذ قد يكون ثمة اختلاف في التفاصيل، كقوله سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(5) ، وأما ما ثبت رفعُه من قبل الله سبحانه فهو هدى بالقوة لا بالفعل، إذ لا يمكن أن يكون قد صدر من الله تعالى ويكون في الوقت نفسه ضلالاً، بل كان هدى لكنه غير مطلوب بعد نزول القرآن الكريم، والالتزام به غير مجزٍ ولا نافع.

وينبغي التفريق هنا بين أمرين، الأول: ما ثبت نزوله من قبل الله سبحانه وتعالى في أحد الكتابين، وصدَّقه القرآن الكريم، أو نصّ على بقائه بوجه ما كالصوم. والثاني: ما ثبت نزوله كذلك، لكن القرآن والنصوص الروائية الصحيحة سكتت عنه.

فالأول هو الهدى الفعلي الذي يلزم العمل به، لأنه يصبح أيضاً من جملة القرآن الكريم، أي يكون في قد نزل في أكثر من كتاب، والثاني هدى بالقوة، لكن لا يلزم العمل به بل قد لا يصح، إلا بناء على القول باستصحاب الشرائع السابقة بنحو مطلق، وهو محل جدل أصولياً.

بالطبع هذا بالنسبة للتوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية السابقة التي أُنزِلتْ فعلاً من قبل الله سبحانه وتعالى، أما المحرَّف منها فلا حُجِّيَّة له إطلاقاً.

وعلى كل حال، فالمراد النهائي في هذه الآية المباركة الاحتجاج على أهل الكتاب، ليلتزموا بهدى القرآن الكريم، أي المراد التأكيد على أن القرآن هدى لجميع الناس لا للمسلمين فقط، بالتالي فكما كانت التوراة والإنجيل هدى من الله سبحانه فالقرآن كذلك أيضاً، فعلام التعصّب ضد النص القرآني؟!


1. مجمع البيان، مصدر سابق، ج1 ص524. 2.الكشاف، مصدر سابق، ج1 ص258. 3.تفسير الشعراوي، مصدر سابق، ج2 ص1267. 4.التحرير والتنوير، مصدر سابق، ج3 ص11. 5.البقرة 183.