من خلال المقارنة بين النص الوارد في سبب النزول المذكور سلفاً الذي رواه بعض المفسرين، وبين النص الصحيح الوارد عن أهل البيت الكرام عليهم السلام في الحادثة المتعلقة بوفد نصارى نجران، نجد عبارةً مضافةً في الأول ولا وجود لها في الثاني، والظاهر أنها لا تتناسب مع الخطاب المعهود عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله المليء بالنبل واللين الأخلاق السامية، وذلك عندما اتهم النبيُ عليه السلام سادةَ الوفد بالكذب كما هو ملاحظ في المقطع التالي (فتكلم السيد والعاقب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أسلما، قالا: قد أسلمنا قبلك. قال: (كذبتما)، يمنعكما من الاسلام دعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، فليس معهوداً عن المصطفى صلى الله عليه وآله هذا الأسلوب الهجومي والمنطق الخشن عند محاورة الآخرين، بل منطقه دائماً يفيض منه الرحمة والحب والآداب العالية، ولا يتوسل إلا بالدليل العلمي والحجج العقلية.

في مقابل ذلك لاحظ المنطق الرائع والأسلوب الأخلاقي الرفيع في النص الوارد عن أهل البيت الكرام عليه الصلاة والسلام، فقد جاء فيه هذا المقطع (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فباهلوني فإن كنت صادقاً أنزلت اللعنة عليكم، وإن كنت كاذباً نزلت علي، فقالوا: أنصفت)، فلم يهاجمهم بكلمات خشنة، ولم يتهمهم بالكذب مباشرة مع أنهم لم يكونوا على حق، ولم يتكلم معهم بالكلام الفاحش، وحاشاه من كل ذلك صلوات الله عليه وعلى آله، كيف وقد أذهب الله عز وجل عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وكيف وهو من وصفه الله سبحانه بالخلق العظيم.

وهذا الأسلوب الرفيع الوارد عن أهل البيت عليهم السلام هو تماماً ما نصَّتْ عليه آية قرآنية كريمة، فقد قال سبحانه ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(1). فمع أن النبي صلى الله عليه وآله يعلم يقيناً أنه على حق وأنهم على باطل، لكنه مع ذلك يضع الفرضيتين أمامهم من باب الإنصاف عند الحوار مع الآخر، والعبرة إنما هي بقوة الدليل العلمي، لا الصراخ والتكاذب والتراشق بالألفاظ النابية المجافية للأخلاق. هكذا يصوّر لنا القرآن الكريم وأهل البيت عليهم السلام الأخلاق الحوارية للمبعوث رحمة للعالمين صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين.


1. سبأ 24.