يضعنا هذا المقطع من الآية السادسة ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ أمام خاصِّيّة أخرى للعلم الإلهي، ومفادها أن العلم الإلهي ليس بمعزل عن القدرة على التصرف، أي هو ليس مجرد معرفة، بل يتعداها إلى الفعل، فالله سبحانه ليس عالماً وعارفاً بالشيء فحسب، بل هو خالق للشيء المعلوم.

فإذا كان كذلك، فعلم الله عز وجل بالشيء لا ينفصل عنه من بداية نشوئه، لأنه هو الذي ابتدأ إنشاءه، كما أنه عالم بجميع عناصر الشيء وأسراره وقوانينه، لأنه هو الذي أوجده وخلقه على هيئته، وهو أيضاً قادر على التحكم فيه، لأنه هو الذي خلق قوانينه المتحكِّمة فيه ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ.

والتحكم في الشيء لا يكون على نحو العبث، ولا بحسب إرادة الغير، ولا بالخضوع إلى ظروف خارجية ضاغطة، بل بحسب ما يشاء الله عز وجل ويريد ﴿  كَيْفَ يَشَاءُ .

والظاهر أن هذا الخطاب في سياق الجدل مع وفد نصارى نجران، وبالتالي فيه نوع من المقارنة بين العلم الإلهي اللامحدود والعلم البشري وإن كان منتسباً إلى الله سبحانه كعلم الإنبياء عليهم السلام. بالتالي فإن ما ذُكِر من خاصية للعلم الإلهي لا ينطبق على العلم البشري.

تأتي بعد ذلك بعض التساؤلات:

ماذا يعني التصوير في الأرحام؟.
ما دلالة هذا المستوى من العلم والقدرة؟.

لن أتكلم هنا عن آلية التصوير فهو من اختصاصات علماء الأحياء(1) ، والذي يهمنا أن التصوير في الأرحام يعني أن الله عز وجل هو الذي خلق القوانين الطبيعية التي تنظم عملية التصوير، ولا يمكن لأحد تجاوز تلك القوانين، نعم يمكن الاستفادة منها وتسخيرها.

ودلالة ذلك لا محدودية العلم الإلهي، فهو لا يقتصر على العلم بالشيء وبخصوصياته، بل يتعداه إلى التحكم في المعلوم قبل أن يصبح معلوماً، والتحكم لا يخضع لأي إرادة خارجية، بل متمحِّض في المشيئة الإلهية، وهذه المشيئة ليست مزاجية بل منطلقة من حكمة، وهذا مفاد ما جاء في عجز الآية ﴿لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فلا مشيئة إلا مشيئته، وهو عزيز لا يغلبه على مشيئته أي شيء، وحكيم لا يضع الأمور إلا في مواضعها وبمقاسات خاصة.

بالتالي فالعلم الإلهي مطلق ومهيمن على الحقائق، ليس فيه شك ولا ريب أو تردد، وليس فيه نسبية من أي جهة من الجهات، لهذا فالاتصال بهذا العلم هو الطريق للوقوع على الحقائق العملية.

وأما مفهوم التصوير ، فالذي يظهر من الروايات شموله لمجالات أربعة:

الشكل والصورة الخارجية.

العامل الوراثي.

الجنس، ذكر أم أنثى.

مسيرة الحياة بكاملها.

فالأول والثاني يظهران من رواية العلل والفقيه -والظاهر اعتبارها(2) - عن الصادق عليه السلام قال: (إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقاً جمع كل صورة بينه وبين أبيه إلى آدم(3)  ثم خلقه على صورة أحدهم(4)  فلا يقولن أحد(5)  هذا لا يشبهني ولا يشبه شيئاً من آبائي) (6) .

فقوله عليه السلام (خلقه على صورة أحدهم) و (لا يشبهني) إشارة إلى الصورة والشكل الخارجي للإنسان، وقوله (جمع كل صورة بينه وبين أبيه إلى آدم ثم خلقه على صورة أحدهم) إشارة إلى العامل الوراثي.

والرابع بالإضافة إلى الأول صرَّحتْ بهما صحيحة(7)  زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: ( إن الله عز وجل إذا أراد أن يخلق النطفة التي مما أخذ عليها الميثاق في صلب آدم أو ما يبدو له فيه ويجعلها في الرحم، حرك الرجل للجماع وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري ، فتفتح الرحم بابها فتصل النطفة إلى الرحم فتردد فيه أربعين يوماً، ثم تصير علقة أربعين يوماً، ثم تصير مضغة أربعين يوماً، ثم تصير لحماً تجري فيه عروق مشتبكة، ثم يبعث الله ملكين خلاقين في الأرحام ما يشاء الله فيقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ويشقان له السمع والبصر وجميع الجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله، ثم يوحي الله إلى الملكين اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري واشترطا لي البداء فيما تكتبان، فيقولان: يا رب ما نكتب؟ فيوحي الله إليهما أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس أمه، فيرفعان رؤوسهما فإذا اللوح يقرع جبهة أمه، فينظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه شقياً أو سعيداً وجميع شأنه، قال: فيملي أحدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان، ثم يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ثم يقيمانه قائماً في بطن أمه، قال: فربما عتى فانقلب، ولا يكون ذلك إلا في كل عات أو مارد، وإذا بلغ أوان خروج الولد تاماً أو غير تام أوحى الله عز وجل إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يخرج خلقي إلى أرضي وينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه، قال: فيفتح الرحم باب الولد فيبعث الله إليه ملكاً يقال له زاجر فيزجره زجرة فيفزع منها الولد فينقلب فيصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن ليسهل الله على المرأة وعلى الولد الخروج ، قال: فإذا احتبس زجره الملك زجرة أخرى فيفزع منها فيسقط الولد إلى الأرض باكياً فزعاً من الزجرة) (8) .

فقوله عليه السلام (ويشقان له السمع والبصر وجميع الجوارح) يشير إلى الصورة الخارجية، وقوله (فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه شقياً أو سعيداً وجميع شأنه) يشير إلى مسيرة الإنسان الكاملة في الحياة وما يترتب عليها من آثار ونتائج أخروية.

والثالث يظهر من رواية العلل عن أمير المؤمنين عليه السلام، فقد جاء فيها (ثم يبعث الله ملك الأرحام فيأخذها فيصعد بها إلى الله عز وجل فيقف منه ما شاء الله، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى، فيوحي الله عز وجل ما يشاء، ويكتب الملك) (9) .

فالروايات تعطي للتصوير مفهوماً واسعاً يشمل جنس الإنسان وصورته الخارجية والعوامل المؤثرة فيه وراثياً ومسيرته الكاملة في الحياة وماذا ستتمخض عنه في العالم الآخر.

وهو مرحلة متأخرة عن الخلق، كما قال سبحانه ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ(10) ، والفارق بينهما نترك الحديث عنه إلى أن نصل إلى هذه الآية من سورة الأعراف بإذن الله تعالى.

وفي اللغة توجد ملاحظة جديرة بالانتباه، فقد عُرِّف التصوير بالمَيْل، ففي المقاييس «صور يصوَر: إذا مال. وصُرت الشيء أصوره وأصرته: إذا أملته إليك. ويجيء قياسه تَصوَّر، لما ضُرِب، كأنه مال وسقط»(11) ، وفي التهذيب «صُرت إليَّ الشيء وأصرته: إذا أمتله إليك، ويقال صاره يصوره ويصيره: إذا أماله»(12) .

ما يعني أن التصوير يستتبع إمالةً إلى شيء، أي أن صورة الإنسان بالمعنى العام المذكور تكون في هيئتها وعناصرها المؤثرة ومسيرتها مائلة إلى شيء ما، أي تشترك مع ذلك الشيء في بعض الخواص بحيث تكون شبيهة له بنسبة. فإلى ماذا تكون الإمالة في تصوير الإنسان؟ مع ملاحظة بأن تعيين وجه الشبه هذا لا يكون من بداية الخلق، وإنما عند التصوير في الأرحام.

قلّ من المفسرين من تعرض لهذا الأمر، باستثناء الواحدي الذي ذهب إلى أن الإمالة تكون للأبوين، أي عامل الوراثة، فقد جاء في عبارته «التصوير جعل الشيء على صورة، والصورة هيأة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه وأصله من صاره يصوره إذا أماله، فهي صورة لأنها مائلة إلى شكل أبويه»(13) . وقد نجد لهذا التوجيه ما يؤيده في رواية العلل والفقيه المتقدمة، خصوصاً عند قوله عليه السلام (إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقاً جمع كل صورة بينه وبين أبيه إلى آدم ثم خلقه على صورة أحدهم).

وهذا التوجيه قد يكون مقبولاً بمقدار، خصوصاً بعد النظر إلى الرواية، لكنه ليس شاملاً، أي أن الإمالة قد تشمل أموراً أخرى، بدليل أن آدم عليه السلام لم يكن له أبوان، ومع ذلك جرى عليه من التصوير ما جرى على بقية البشر، كما في قوله سبحانه ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ (14) . فالآية تنص على أن التصوير وقع أيضاً على آدم عليه السلام، فهو بعد أن خُلِق وصُوِّر قيل للملائكة اسجدوا، فإلى ماذا كانت الإمالة بالنسبة لآدم عليه السلام؟

ولأن الآية جاءت بصيغة الجمع ﴿خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ، فقد دلّتْ على أن نمط التصوير بالنسبة لآدم عليه السلام متطابق مع نمط التصوير بالنسبة لسائر البشر. لذلك فالإمالة بالنسبة لبقية البشر - كما بالنسبة لآدم- لا تتعلق بالأبوين، مع إمكان تعلقها بهما بالنسبة لبقية البشر دون آدم.

قد تكون الإمالة إلى الفطرة ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا(15) ، خصوصاً أن التصوير لا يقتصر على الهيئة الخارجية والطباع المتوارثة، وإنما يشمل أيضاً المسيرة الحياتية والدينية للإنسان ومستوى التزامه بالميثاق الذي يجعل منه في النهاية سعيداً أو شقياً، كما جاء في صحيحة زرارة المتقدمة (فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه شقياً أو سعيداً)، والميثاق هو الفطرة التي أشير إليها في قوله سبحانه ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(16) . وهذا ما يتحد فيه جميع البشر، ولذلك قد تكون الإمالة في التصوير إلى هذه الفطرة. وبالطبع فإن ذلك لا يمنع أن يضاف في الإمالة لحاظات وأمور أخرى مع مرور الأزمان.


1. أنظر مثلاً كتاب «تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم»، للدكتور زغلول النجار، ج1 ص131، مكتبة الشروق الدولية- القاهرة، الطبعة الثانية 2008م. 2. ففي العلل يرويها الصدوق بسند صحيح إلى جعفر بن بشير، وجعفر يرويها عن الصادق عليه السلام بواسطة رجل، فتكون مرسلة والمفروض القول بضعفها، لولا ما قاله النجاشي عن جعفر أنه روى عن الثقات. أنظر رجال النجاشي، مصدر سابق، ص119. إضافة لورودها في الفقيه بلفظ (قال الصادق). 3. هذا نص العلل، وفي الفقيه (بينه وبين آدم). 4. في الفقيه (على صورة إحديهن). 5. في الفقيه (أحد لولده). 6. علل الشرائع، مصدر سابق، ج1 ص103. ومن لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3 ص484، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، الطبعة الثانية 1404هـ. 7. يرويها محمد بن يعقوب الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد، وعلي بن إبراهيم عن أبيه، جميعاً عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن زرارة. 8. الكافي، مصدر سابق، ج6 ص13. 9. علل الشرائع، مصدر سابق، ج1 ص95. 10. الأعراف 11. 11. معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج3 ص320. 12. التهذيب، ج12 ص227، نقلاً عن التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مصدر سابق، ج6 ص361. 13. التفسير الكبير، مصدر سابق، ج7 ص144. 14. الأعراف 11. 15. الروم 30. 16. الأعراف 172.