لأن الآية في سياق الجدل مع نصارى نجران، فهي تنفي ألوهيّة نبي الله عيسى عليه السلام عبر إثبات تصويره في الرحم، وكأن الآية تخاطبهم بما هو مرتكز في أذهانهم أو بما هو معدود من المسلَّمات عندهم، حيث أن إثبات التصوير يدل على ثبوت الخلق، وبالتالي نفي الألوهية.

فالآية عندما تقول ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(1) ، فهي تنص على أن عيسى عليه السلام مخلوق، لكن كيف يثبت ذلك وهو من غير أب؟

هذا ما أجابت عنه الآية هنا، ليس فقط بأنه مرّ على عالم الأرحام، وإنما خضع للتصوير فيه، والتصوير مرحلة متأخرة عن الخلق، أي أنه لا يحصل بلا خلق، كما قال سبحانه ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ(2) ، فإذا كان عيسى عليه السلام قد صُوِّر في الأرحام، فلابد أن يكون قد خُلِق، وبالتالي فهو مخلوق.

نكتة هامة

ذكر ابن عاشور استعمالات ﴿كَيْفَ في اللغة وبحسب ما هي واردة في قوله سبحانه ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ، وهي نكتة لطيفة تستحق الالتفات إليها، وإليك نصها «و ﴿كَيْفَ هنا ليس فيها معنى الاستفهام، بل هي دالة على مجرد معنى الكيفية، أي الحالة، فهي هنا مستعملة في أصلها الموضوعة له في اللغة، إذ لا ريب في أن (كيف) مشتملة على حروف مادة الكيفية، والتكيّف، وهو الحالة والهيئة، وإن كان الأكثر في الاستعمال أن تكون اسم استفهام، وليست (كيف) فعلاً، لأنها لا دلالة فيها على الزمان، ولا حرفاً لاشتمالها على مادة اشتقاق. وقد تجيء (كيف) اسم شرط إذا اتصلت بها ما الزائدة وفي كل ذلك لا تفارقها الدلالة على الحالة، ولا يفارقها إيلاء الجملة الفعلية إياها إلا ما شذّ من قولهم: كيف أنت. فإذا كانت استفهاماً فالجملة بعدها هي المستفهم عنه فتكون معمولة للفعل الذي بعدها، ملتزماً تقديمُها عليه، لأن للاستفهام الصدارة، وإذا جرِّدت عن الاستفهام كان موقعها من الإعراب على حسب ما يطلبه الكلام الواقعة هي فيه من العوامل كسائر الأسماء.

وأما الجملة التي بعدها - حينئذ- فالأظهر أن تعتبر مضافاً إليها اسم كيف، ويعتبر كيف من الأسماء الملازمة للإضافة. وجرى في كلام بعض أهل العربية أن فتحة (كيف) فتحة بناء.

والأظهر عندي أن فتحة كيف فتحة نصب لزِمَتْها لأنها دائماً متصلة بالفعل فهي معمولة له على الحالية أو نحوها، فلملازمة ذلك الفتح إياها أشبهت فتحة البناء.

فـ (كيف) في قوله هنا ﴿كَيْفَ يَشَاءُ يعرب مفعولاً مطلقاً لـ ﴿يُصَوِّرُكُمْ، إذ التقدير: حال تصوير يشاؤها كما قاله ابن هشام في قوله تعالى ﴿كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ(3) .

وجوّز صاحب المغني أن تكون شرطية، والجواب محذوف لدلالة قوله: ﴿يُصَوِّرُكُمْ عليه، وهو بعيد، لأنها لا تأتي في الشرط إلا مقترنة بما. وأما قول الناس: كيف شاء فعل فلحن. وكذلك جزم الفعل بعدها قد عُدّ لحناً عند جمهور أئمة العربية»(4) .

وفي المجمع ﴿كَيْفَ «في موضع نصب على المصدر تقديره أي نوع يشاء، وجملة يشاء في موضع الحال من يصوّر، أي يصوركم في الأرحام، أي يخلق صوركم في الأرحام شائياً مريداً أي نوع أراده»(5) .

وعلى كلا الحالين فـ ﴿كَيْفَ تأكيد على التفرّد الإلهي في كيفية تصوير الإنسان في الأرحام، أي أنه هو سبحانه فقط الذي يصوِّر، وأن كيفية التصوير خاضعة له لا غير، وبحسب ما يشاء هو جلت قدرته.


1. آل عمران 59. 2. الأعراف 11. 3. الفجر 6. 4. التحرير والتنوير، مصدر سابق، ج3 ص12. 5. مجمع البيان، مصدر سابق، ج1 ص524.