إن معركة «العقل والنقل» قديمة جداً، وليست من المستحدثات التي جاءت كنتيجة طبيعية لطروّ عدة من التحولات الفكرية في الوسط الإسلامي في هذا القرن، وإن كانت في بطبيعتها كمعركة تتأثر بلون المحيط الذي تثار فيه سواء كان زمانياً أو مكانياً، ولهذا فإنها تتزيّا كل يوم بزي جديد.

وما يرمز إلى قِدَمِها ما نجده من انشدادات ماضويّة لدى التيارات المختلفة، فكل تيار أو مذهب فكري يعمد دائماً إلى استمداد القوة والعون - في سبيل دعم مبانيه والتأصيل لها- من حالة‌ تاريخية سابقة، ولو من خلال تأييدها أو تصنيف نفسه ضمنها. فحين نجد - مثلاً- باحثاً كالدكتور محمد عمارة يؤسس لمشواره الفكري بكتاب مثل «المعتزلة و مشكلة الحرية الإنسانية» - الذي هو عبارة عن أطروحته للدكتوراه-، و حين نجد أيضاً باحثاً آخر كالدكتور محمد عابد الجابري يعيد إنتاج تراث الفيلسوف المغربي «ابن رشد»، معتبراً إنتاجه قمّة الإنتاج الفلسفي الإسلامي، ويهتدي به كثيراً لكونه آخر ما توصّلت إليه العقلية الإسلامية - وهو بذلك لا يري لزومية التعويل علي إنتاجات من قبله [1]-، وكذلك عندما تلحظ كثرة الإنشداد إلى «أبي حامد الغزالي» من قبل خصماء الفلسفة، فحين نجد كل ذلك نكتشف أن كل المذاهب الفكرية تبحث لها عن أصول تاريخية تأنس بها و تصنّف نفسها في دائرتها، و ذلك يدل على قِدَم تلك المعركة في الوسط الإسلامي.

فقد أخذت تلك المعركة في الإحتدام من بدايات العصر الإسلامي الأول، حيث ظهر تضاد في المتبنيات الفكريه بين تيارين عريضين في الساحة الإسلامية، ترأس أحدهما الإمام مالك بن أنس وتلامذته، وكان متمركزاً في المدينة المنوّرة، ووقف على رأس التيار الآخر الإمام أبو حنيفة‌ النعمان وتلامذته، وكانت العراق مركز انطلاقته، وتبعه تضادٌّ من نوع آخر بين التيار المعتزلي المتمثل في واصل بن عطاء و عمرو بن عبيد و حاشيتهما، والتيار المرجئي بزعامة الحسن البصري وتلامذته، ثم انحدر الإشكال عند هذين التيارين إلى الخلف الممثلين لهما، فوصل إلى الجبائيين - أبو علي وأبو هاشم- قبلهما العلّاف - من جهة المعتزلة-، وأبو الحسن الأشعري وخلفه - من جهة الأشاعرة-.

ثم أخذ التضاد في التعمّق والإتّساع عندما اشتبك الفقهاء مع أصحاب الميول الفلسفية في مباحث جدلية‌ كثيرة، وعل رأس تلك المباحث أصل المنحى الفلسفي في التفكير، وقد أحدث هذا الإشتباك قعقعات سمعت أصداؤها في كثير من المدارس الفكرية والأطر المذهبية، كان من بينها الشقاق الإخباري الأصولي في المحيط الشيعي، بدايات القرن الحادي عشر الهجري.

وكل هذا التضاد والاعتراك عمقُه الأساسي «جدلية العقل والنقل»، وإن كان لكل تضاد ميزاته الخاصة.

فالمعركة - إذاً- بين العقل والنقل قديمة في الوسط الإسلامي، وهي تتجد بتجدد الزمان والمكان.

لكن مع كونها قديمة، والقِدَم بطبيعته يدعِّم حالة التكامل في البحث والنظر ولو بحدّ نسبي، إلا أنها لم تحرز حتى هذا اليوم قاسماً فكرياً مشتركاً يلمُّ سائر التيارات، بل الملاحظ أن الزمان كلما تطوّر وتقدم كلما تعمّقت الهوة بين تلك التيارات.

فبعض المواد العلمية التي كانت يوماً محل نقض و إبرام شديدين، كان للزمان أثر في تهدئتها و استقرارها، لأن إطالة النظر فيها والإكثار من التحاور فيها، أوصلها إلى منطقة‌ يمكن أن يتفهمها كل تيار، سواء كان له تصوّر معاكس أو موافق فيها، فمسألة خلق القرآن، كانت يوماً من أعقد المواد العلمية وأكثرها بحثاً ونظراً، ولطالما حدثت بسببها مهاترات في الوسط الكلامي الإسلامي في العصر العباسي، لكن بفعل تعدد النظر و تتابع الحوار بين الخصوم، استقر النظر فيها لا أقل على مستوى القاسم المشترك الذي يمكن أن يتفهمه كل طرف، أي تبلور الاستنتاج فيها نسبياً لا مطلقاً - خاصة‌ بعد تراجع عوامل إذكائها الخارجية وعلى رأسها سياسة الدولة العباسية-.

ويمكن ادعاء ذلك أيضاً في مسائل أخرى كنظرية الفيض، أو إشكالية العلم الإلهي، أو حقيقة البعث يوم القيامة، فعامل الزمان كان له أبلغ الأثر في استقرارها ولو نسبياً.

إلا أن هذا الأثر من الإستقرار والتهدئة، لم ينعكس على إشكالية العقل والنقل حتى بالمستوي النسبي، بل الملاحظ أن الزمان ساهم في إذكائها، حتى لكأنك تشعر بإنسداد أي إمكانية من شأنها إيجاد جامع فكري بين مختلف التيارات المتباينة‌ النظر في خصوص هذه الإشكالية، وما الباعث على مثل هذا التجذّر في الإشكالية إلاّ عمقها، خاصة أنها لم تكن وليدة مصلحة سياسية خاصة - و إن كان ادعاء ذلك في بعض فصولها ليس فيه ثمة ‌مجازفة، كما لوحظ في مسألة خلق القرآن، أو تشجيع المأمون العباسي على ترجمة الإنتاج العقلي اليوناني، ولكن الطابع العام لجدلية العقل والنقل لم يكن كذلك، وإنما كان طابعاً فكرياً بحتاً-.

ولأنها مسألة فكرية بحتة، فلا يمكن طيّها بسهولة، بل هي في حاجة لدراسة هادئة أبعد ما تكون عن الطابع الهجومي، دراسة تتوخى الإقتراب من الصواب، من خلال التأسيس البرهاني المتماسك، خاصة بعد النظر إلى أن أصحاب النظريات المتفاوته في هذه المسألة العلمية لا تعزوهم الأدلة والبراهين القوية، بل لم نجد من ناقش هذه المسألة وتبنّى خطّاً فكرياً فيها واقتصر على أدلة ساذجة إلا من شذ، فغالب الباحثين مهما كانت اتجاهاتهم ومتبنياتهم يتكئون على أدلة علمية متينة في نفسها، وإن كانت قابلة للنقد عند كثيرين.

[1] راجع: نحن والتراث، للدكتور محمد عابد الجابري.