كيف تتولّد الأفكار عند الإنسان؟ وما هي العوامل المؤثّرة فيها؟ وكيف يمكن للإنسان تحصين عقله تجاه تلك العوامل؟ وهل ينبغي للإنسان الركون إلى أفكاره في كل حين وترتيب الأثر عليها؟ وهل يكون مأثومًا شرعًا وعقلاً ومُعاتَبًا عقلائيًا فيما لو تبيّن خطؤها؟ وهل يحق له الإفصاح عنها والتبشير بها على كل حال؟ وقبل ذلك هل يمكن للإنسان العاقل الانسلاخ من الظروف المحيطة به والتفكير بصورة مستقلة ومجرّدة؟ أسئلة كثيرة يمكن أن تُثار في سبيل تحرير رؤية علمية هادئة حول عملية صناعة الأفكار.

ينبغي أن نعلم بدايةّ أنّ ماكينة البحث العلمي أنتجت علومًا وفرضيات كثيرة، هدفها الأساس التدخّل في مسيرة الإنسان الفكرية وتقنين وتقعيد المناهج العلمية لها، فعلم المنطق مثلاً يؤسّس لقواعد تهدف لصيانة الفكر من الخطأ، وعلم الأصول يعمل على تقعيد آليات منهجية تعين الباحث في المجال الفقهي على استنباط الأحكام الشرعية، والهرمنوطيقا وإن لم ترقَ لرتبة العلم إلاّ أنّها فرضيات جاءت كرد فعل على المزاجية في توليد الأفكار وقراءة النصوص، وهكذا الفرضيات الشكّية جاءت للحؤول دون تنامي الادعاءات المتكاثرة للحق المطلق.

ومازالت ماكينة البحث العلمي في أغلب الحقول تعمل على تحقيق نتائج مؤثّرة في هذا الصعيد، ولهذا فإنّ بعض المنشغلين بالعلوم الفلسفية من المعاصرين يصرّحون بأنّهم يهدفون إلى التأسيس لأصول علم الكلام ليكون مثيلاً لأصول علم الفقه الذي مَنْهَجَ للبحث الفقهي، فعلم الكلام من أهم العلوم لكنّه يفتقد إلى أصول تنظّم عملية التأسيس لأفكاره ومبانيه وفروعه التفصيلية، والشيء نفسه يُقال عن علم التفسير وغيره من العلوم.

فكل هذا الجهد يرمي في نهاية المطاف إلى تقعيد أصول ومناهج لعلمنة الصناعة الخاصة بتوليد الأفكار.

ومما يؤكّد على ضرورة هذا الجهد ما يوصَف بالتغيّر السريع في الأفكار عند الإنسان والجماعات، حيث يشاهَد وجدانًا كيف تتحوّل الأفكار عند الإنسان، فكم هي الأفكار التي كان يؤمن بها ويدافع عنها بحماسة شديدة ويعتبرها من أبده البديهيات ثم سرعان ما ينقلب عليها ويسفِّهها، أو لا أقل تصبح محل نظر عنده، فذلك يؤكّد على أنّ صناعة هذه الأفكار لم تكن متقنة بالشكل الكافي، مما جعلها عرضة للتغير والتقلّب.

وما يزيد الأمر تأكيدًا الاختلاف الملحوظ بل ندرة الاتفاق على رؤية واحدة حتى عند أقرب المقربين، وعلى جميع الأصعدة ليست الاجتماعية والثقافية فقط بل والعقدية أيضًا، فالاختلاف هذا مؤثر واضح على أنّ توليد وصناعة الفكرة عند كثيرين ليست على درجة عالية من الإتقان بل يعتريه النقص والضعف ولهذا استطاع غيره أن يولّد ما يتعارض معه.

لا أقول بالنظرية الشكيّة ولا النسبية المطلقة، وإنّما أقول بأنّ جميع ما ذكر يدلّل على أنّ صناعة الأفكار من المهمات الصعبة التي يتوقف الإتقان فيها على مناهج علمية دقيقة، ولا يصح أن تكون مزاجية منفعلة بالظروف الخارجية المحيطة بالإنسان ولا الضغوطات النفسية.