العقلانية الراسخة

(أطروحة في تفاعل الثلاثي: النص، العقل، الواقع)

 عندما نقوم بغربلة ونخل للأطروحات التي تخللتها الحداثة بشتى أطيافها، نجد أنها تلتقي في منطلقاتها من التأسيس لنمط من التعامل بين ثلاثي:(النص، العقل، الواقع)، وإنما تختلف التيارات الفكرية الحداثية – بينها وبين بعضها، وأيضاً بينها وبين غيرها- بناء على التعدد في تأسيس ذلك النمط.

"والعقلانية الراسخة" هي نمط يحكي طبيعة التفاعل والتداخل بين هذا الثلاثي.

ماذا يعني ذلك؟

يتضح ذلك من خلال تشخيص دور كل عنصر من هذا الثلاثي:

1. النص: يجعل للواقع نظماً لحياة إيمانية، ويسير مع العقل السليم في خط واحد، ويرشد إليه.

2. العقل: يفهم النص ويهتدي به في انطلاقاته الواسعة في بحر الواقع.

3. الواقع: يدار ويصلح بنتيجة التفاعل بين النص والعقل.

فالعقل ليس من وظيفته التشريع – أي جعل القوانين للحياة الايمانية-، والنص ليس من وظيفته الاستغراق في الجعل الخاص – بمعنى جعل تشريع خاص لكل واقعة وإن كانت جديدة-، بل النص يهتم بجعل الأسس القابلة لاستيعاب التفاصيل، والعقل يهتدي بتلك الأسس في التطبيق على التفاصيل مراعياً التجدد والتغير في الواقع.

وهكذا تتفاعل العناصر الثلاثة في توليد القوانين وتطبيقها في سبيل بناء حياة إيمانية.

وإنما نضطر للتركيز على الثلاثة في آن، لأن الخطاب الديني أولى لها أهمية كبرى، بحيث قد يتوهم البعض غلبة بعضها على البعض الآخر، أو نفي بعضها للبعض الآخر، والأصح تكاملها في مسيرة واحدة.

فقد قال تعالى عن النص:(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ).

كما قال:(قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

في حين قال سبحانه عن العقل:(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

وهكذا جاء في الخبر الصحيح:(وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك، ولا أكملتُك إلا فيمن أُحب، أما أني إياك آمر وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك أثيب).

وقال عن الواقع:(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).

لكن ما هي ماهية هذا الثلاثي؟

أما النص فهو الثابت بطرق معتبرة عند العقلاء.

وأما الواقع فهو المشخَّص من قبل أهل الخبرة.

وأما العقل فهو العقل الراسخ.

والرسوخ هو النقطة التي يجتمع فيها الثلاثي بشكل إيحابي.. كيف؟

إنما تم اختيار مصطلح الرسوخ، انطلاقاً من قوله تعالى:(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(آل عمران: من الآية7)

"الرسوخ": الثبات، وهو يعني العقل المحتوي على الأسس الثابتة للدين.

"فالعقل الراسخ" هو القادر على التأويل – والتأويل هو: (1) فهم وإدراك المعاني العميقة للدين، (2) وتطبيق تلك المعاني على الواقع الخارجي-.

بذلك فـ "العقلانية الراسخة" تعطي للعناصر الثلاثة مكانتها، ولا تقدم عنصراً منها على حساب الآخر.

فحيث إن هذه الأطروحة "العقلانية الراسخة" تعطي للنص مكانة في مبانيها، لزم إعطاؤه مساحة كافية من الاهتمام البحثي، من حيث ثبوته، ومكانته، وكيفية إدراك معانيه.

وحيث إنها تعلي من شأن العقلانية، برز دور العقل، ومكانته، وعلاقته بالنص.

ولأنها تشترط الرسوخ: وهو هنا بمعنى الثبات واليقين، كان لابد من الانعطاف شيئًا ما نحو البحث حول النسبية والشك.

وقبل ذلك فهي قائمة على أساس الإيمان – من حيث إنها تفترض في برنامجها العملي بناء حياة إيمانية-، ولذلك كان لابد من صناعة رؤية عن جدلية الغيب والمادة، ودورهما في حركة الحياة، لتتضح جميع ملابسات هذه الأطروحة.

ودفعاً للتوهّم بكون هذه الأطروحة دعوة للجمود والسيكولاستيكة - المدرسية- جاء بحث "التجديد في الخطاب الديني" ليشكل عنصرًا مهمًا في ثناياها.

هذا ملخَّص سريع لهذه الأطروحة، وما يرافقها من بحوث وموضوعات علمية.