معتبرة السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أيها الناس إنكم في دار هدنة، وأنتم على ظهر سفر، والسير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يُبْلِيان كل جديد، ويقرّبان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فأعدّوا الجهاز لبُعدِ المجاز.

قال فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله وما دار الهدنة؟ قال: دار بلاغ وانقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفّع، وماحل مصدّق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدُل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تُبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرَف الصفة، فلْيَجْلُ جالٍ بصره ولْيُبْلِغِ الصفة نظرَه، يَنْجُ مِنْ عَطَبٍ ويتخلّص من نَشَبٍ، فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات والنور، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربّص. (1)

السند:
رواها الشيخ الكليني محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم الثقة، عن أبيه إبراهيم بن هاشم الثقة على الأصح، عن النوفلي وهوالحسين بن يزيد، وقد قيل بثبوت وثاقته بالتوثيق العام نظراً لوروده في أسناد تفسير القمي(2) ، إلا أن الأقرب القول باعتبار ما يرويه لا القول بوثاقته، عن السكوني وهو اسماعيل بن أبي زياد، وقد قيل أيضاً بوثاقته استناداً إلى ما ذكره الشيخ الطوسي في العدة(3) ، ولوروده أيضاً في أسناد تفسير القمي، ويقال فيه ما قيل في سابقه، فهذه التوثيقات تثبت اعتبار روايته فقط، وبهذا تكون الرواية معتبرة.

المقدّمة
لن نتوقف كثيراً في الحديث عن المقدمة، لأننا نرمي من هذا الشرح في الأساس إلى التركيز على القيمة العلمية للقرآن الكريم، لكن لأن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله صدّر الحديث عن القرآن بهذه المقدمة، لزم المرور عليها كيما نعرف الرابط بينها وبين ما أراد منا النبي عليه السلام فهمه عن القرآن.

(إنكم في دار هدنة)
عندما نراجع كلمات اللغويين حول مفهوم الهدنة، نجد أنهم ينصّون على معنيين الأول السكون والثاني الاستقامة، فابن فارس في المقاييس عرّف الهدنة بأنها «أصل يدل على سكون واستقامة»(4) ، وكذلك الجوهري في الصحاح، قال «هدن يهدن هدونا: سكن، وهدنه أي سكنه،... وتهادنت الأمور: استقامت»(5) ، وفي القاموس «هدن يهدن هدوناً: سكن وأسكن... وتهادن: استقام»(6)، هذا مع تأكيد بعض اللغويين على أن «أصل الهدنة السكون بعد الهيج»(7) .

كما ورد في كلماتهم أن الهدنة تستبطن الخديعة، كما نص عليه ابن منظور، فقد جاء في اللسان «هدنت الرجل سكنته وخدعته كما يهدن  الصبي، قال رؤبة: ثقفت تثقيف امرئ لم يهدن، أي لم يخدع ولم يسكن فيطمع فيه. وهادن القوم: وادعهم. وهدنهم يهدنهم هدناً: ربثهم بكلام وأعطاهم عهداً لا ينوي أن يفي به»(8) . وفي تاج العروس «هدن الصبي وغيره: خدعه وأرضاه»(9) .

بهذا فالهدنة تنطوي على ثلاثة عناصر: السكون، والاستقامة، والخديعة، ومن هذا الباب عُبِّرَ عن «المصالحة بعد الحرب»(10)  بالهدنة.

وذلك يعني أن الهدنة لا تعني: النهاية الأبدية للصراع والحرب، وإنما تعني ترك المواجهة مؤقتاً، ولذا يلزم الحذر من العدو فربما يخدعك ويغدر بك فينقضّ عليك من حيث لا تشعر، خصوصاً إذا شعر بضعفك.

وإنما ينبغي الحذر لأن السكون قد يصيب الإنسان بالغفلة، بالذات إذا توّهم أن الأمور قد استقرّت بشكل نهائي، فينسى نفسه مع السكون، مما يجعله لقمة سائغة لعدوّه. فالهدنة وإن كانت تعني السكون، لكنه سكون مشوب بالحذر لاحتمال الخديعة.

كما أن الاستقامة ترمز إلى استقرار الأمور، فهي أشبه بقيام الإنسان على قدميه وقيام الزرع على سوقه، وهو تعبير عن عودة الأمور إلى طبيعتها، ومع ذلك فالاستقامة هنا أيضاً مشوبة بالحذر.

بهذا فالهدنة تعني السكون الناتج عن الاستقرار المؤقت للأمور، والمنطوي على حذر شديد لاحتمال الغدر والخديعة في أي وقت.
وهذا ما تعنيه الدنيا تماماً، فهي للإنسان مجرد دار هدنة، ظاهرها السكون والاستقرار، لكن هذا الظاهر يخفي باطناً متربِّصاً لا يُؤْمَن أن يَنْقَضَّ على الإنسان في أي لحظة، فيتحول السكون إلى هياج والاستقرار إلى اضطراب، ولهذا ينبغي أن يكون الإنسان فيها حذراً متيقِّظاً، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كان مهيَّئاً بالشكل اللائق وموفِّراً للشروط اللازمة، وهي ما ستأتي الإشارة إليها في الخبر، فتوصيف الإمام عليه السلام للدنيا بدار هدنة ما هو إلا مقدمة للحديث عن تلك الشروط.

كل ما سيأتي في كلام الإمام عليه السلام في المقدمة إنما هو تفصيل لمفهوم الهدنة، فماذا يعني كون الإنسان في دار هدنة؟
يعني مجموع الأمور التالية:

(وأنتم على ظهر سفر)
فكون الإنسان على ظهر سفر، يعني أنه يتحرك نحو النهاية، فمن كان على ظهر سفر لا يعني أنه يتهيّأ لصعود وسيلة السفر، وإنما يعني أنه على ركبها ومشى، وذلك يشير إلى أنه يتحرك للوصول إلى هدفه.

(والسير بكم سري)
فمن يتأمل في حركة الزمن يكتشف كيف أنه سريع جداً، وهو أمر لا يعيه إلا من بلغ من  الكبر عتياً، لأن طول زمانه يراه أشبه بلحظة واحدة، تماماً كما رءاها نبي الله نوح عليه السلام كحركة من الشمس إلى الظل، فقد جاء في الخبر الصحيح عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: عاش نوح عليه السلام ألفي وخمسمائة سنة، منها ثمانمائة سنة وخمسون سنة قبل أن يبعث، وألف سنة إلا خمسين عاماً وهو في قومه يدعوهم، ومائتا سنة في عمل السفينة، وخمسمائة عام بعدما نزل من السفينة ونضب الماء، فمصر الأمصار، وأسكن ولده البلدان، ثم إن ملك الموت جاءه وهو في الشمس، قال: السلام عليك، فرد عليه نوح وقال له: ما جاء بك يا ملك الموت؟ قال: جئت لأقبض روحك، قال له: تدعني أدخل من الشمس إلى الظل، فقال له: نعم، فتحول نوح عليه السلام من الشمس إلى الظل، ثم قال عليه السلام: يا ملك الموت فكأن ما مرّ بي في الدنيا مثل تحولي من الشمس إلى الظل، فامض لما أمرت به، فقبض روحه عليه السلام. (11) 

بل ولو عاش ما هو أطول من ذلك، لما تغيّر الأمر أيضاً، ولذلك قال الله جلت قدرته ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ(12) .

(وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يُبْلِيان كل جديد، ويقرّبان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود)
الليل والنهار والشمس والقمر تعبير عن حركة الزمن المتسارعة، المعبَّر عنها في الكلام الإلهي باختلاف الليل والنهار، فالليل والقمر ثم النهار والشمس وهكذا دواليك، حركة لا تتوقف أبداً، ولذلك فإن الجديد سرعان ما يصبح قديماً ويبلى، وأهمُّه الإنسان فهو يبدأ جديداً عند الولادة وسرعان ما يبلى ويصبح عجوزاً طاعناً في السن.

وهذا ما تفعله حركة الزمن، فهي تبلي كل جديد، وتقرِّب كل بعيد، فكل ما يراه الإنسان بعيداً يوماً ما، يصبح أقرب إليه مما يتصور، يرى الكهولة بعيدة فإذا هو كهل، ثم يرى الشيخوخة بعيدة فإذا هو شيخ، يرغب في الزواج ويراه بعيداً فإذا هو ربٌّ لأسرة كبيرة، وهكذا.

لهذا فإن الحركة الدؤوبة للزمن التي تبلي كل جديد، وتقرّب كل بعيد، تأتي أيضاً بكل موعود، وأهمُّه الموت.

هذا باختصار ما تعنيه (دار هدنة)، فماذا ينبغي أن يكون إذاً، وكيف للإنسان العاقل أن يتصرَّف؟

تجب الرواية:
(فأعدّوا الجهاز لبُعدِ المجاز)
كالرحّالة والمسافر فإنه يحتاج إلى جهاز، وهو الإحتياجات اللازمة التي تلزمه في سفره، ومن دونها لا يمكن البقاء والإستمرار.

والإحتياجات كما هو معلوم تكون بحسب طبيعة الشأن، فالسفر القريب لا يتطلب كثيراً، لكن كلما بعُد كثُرتْ المتطلبات. وهذا ما أشارت له الرواية، فالإحتياجات يلزم أن تُعَدَّ لبُعد المجاز، أي السفر البعيد لأن الطريق طويل.

كل ذلك ما علاقته بالقرآن الكريم؟

هذا ما سيتضح جلياً عند الوقوف على ذلك التوصيف الراقي للقرآن الكريم من قبل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، بعد أن قدّم بتلك المقدمة الهامة.


1. أصول الكافي، مصدر سابق، ص632. 2. فقد قال في ديباجة تفسيره «ونحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي إلينا، ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض الله طاعتهم وأوجب ولايتهم، ولا يقبل عمل إلا بهم». تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ج1 ص4، مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر- قم، الطبعة الثالثة 1404هـ. 3. قال الشيخ الطوسي في العدة «عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلوب ونوح بن درّاج والسكوني...». عدة الأصول، الشيخ الطوسي، ج1 ص149، الطبعة الأولى 1417هـ، المطبعة: ستاره- قم. 4. معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج6 ص41. 5. الصحاح، الجوهري، ج6 ص2217، دار العلم للملايين- بيروت، الطبعة الرابعة 1987م. 6. القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ج4 ص277، 7. لسان العرب، ابن منظور، ج13 ص435، نشر أدب الحوزة-قم، 1405هـ. وتاج العروس، الزبيدي، ج18 ص586، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع-بيروت، 1994م. 8. لسان العرب،مصدر سابق، ج13 ص435. 9. تاج العروس، مصدر سابق، ج18 ص585. 10. لسان العرب، ج13ص434. تاج العروس، ج18 ص586. 11. الأمالي، الشيخ الصدوق، ص602، مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة-قم، الطبعة الأولى 1417هـ. 12. يونس 45.