تنزيل الكتاب بالحق

بعد أن فرغنا من البحث في مفهوم الإنزال والتنزيل، ينبغي أن نتوقف عند قوله سبحانه ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ.

فماذا يعني تنزيل الكتاب بالحق؟

لكلام الله عز وجل المنزَلِ عناوينٌ متعددةٌ، وكل عنوان راجع للحاظ خاص، فالكتاب له لحاظ خاص، وهكذا القرآن والفرقان، فلكل واحد منها لحاظه وإن كان بينها قواسم مشتركة. وسنتحدث عن كل عنوان في المناسبة المتعلقة به.

فما المقصود بالكتاب؟

لا شك أن العنصر المقوِّمَ للكتابِ الكتابةُ، كما أن العنصرَ المقوِّمَ للقرآنِ القراءةُ، والفارق العرفي بينهما واضح، لكن توجد فوارق لغوية دقيقة بينهما.

أما في الروايات فقد عُرِّف الكتاب بأنه جملة القرآن، وعُرِّف القرآن بأنه جملة الكتاب، ففي صحيح عبد الله بن سنان عن الصادق عليه السلام قال: سألته عن قول الله تبارك وتعالى ﴿الم، اللَّهُ ... إلى قوله ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ قال: هو محكم، والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدقه من كان قبله من الأنبياء.(1)

وفي رواية الكافي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شيء واحد؟ فقال: القرآن جملة الكتاب، والفرقان المحكم الواجب العمل به. (2)

وذلك يعني أن القرآن هو الكتاب والكتاب هو القرآن، ولا شك في ذلك، فقوله سبحانه في مطلع سورة البقرة ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ(3)  يعني القرآن، كما أن قوله عز وجل ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ(4)  يعني الكتاب، مع أن هناك آيات قد تُشْعِر بوجود تمايز وتغاير بينهما، كقوله تعالى ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ(5) ، فعطف الكتاب على القرآن ربما يُشَمّ منه شيء من الاختلاف.

لكن الاختلاف بينهما ليس في الذات، لا من حيث التباين ولا العموم والخصوص من وجه ولا العموم والخصوص مطلقاً، بل النسبة بينهما من حيث الذات التساوي، والاختلاف إنما هو من حيث اللحاظ.

توضيح ذلك: أما من حيث الذات فلا تباين، لأن القرآن الكريم ليس شيئاً مبايناً للكتاب المبين، أي النسبة بينهما ليس التباين من جميع الجهات، بحيث يكون القرآن شيئاً والكتاب شيئاً آخر.

ولا التباين من بعض الجهات فقط بمعنى العموم والخصوص من وجه، بحيث يكون بعض القرآن ليس كتاباً وبعض الكتاب ليس قرآناً، بينما يتحدان في بعض آخر، فيكون هذا البعض في الوقت نفسه كتاباً وقرآناً.

كما أنهما ليسا من قبيل العموم والخصوص المطلق، بأن يكون كل الكتاب قرآناً وبعض القرآن ليس كتاباً، أو العكس.

إنما النسبة بينهما التساوي، فكل القرآن كتاباً وكل الكتاب قرآناً، بمعنى أن كلام الله جل شأنه تارة نطلق عليه بأجمعه قرآناً وتارة نطلق عليه كتاباً.

بالتالي فوجه التمايز بينهما ليس في الذات، وإنما في اللحاظ، أي في المفهوم اللغوي للكتابة والقراءة، وإن كانت هناك آراء أخرى تدّعي وجود تمايز حتى في الذات، وسنأتي عليها مفصَّلاً عند الحديث عن قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ(6) ، وقوله سبحانه: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (7) .

هذا مع العلم بأن التعريف اللغوي لهما متقارب جداً، فالقراءة من قرى وهو «أصل صحيح يدل على جمع واجتماع... ومنه القرآن، كأنه سمّي بذلك لجمعه ما فيه من الأحكام والقصص وغير ذلك»(8) ، والكتابة من كتب وهي «أصل صحيح واحد يدل على جمع شيء إلى شيء»(9) ، وفي الجمهرة «كتب الكتاب يكتبه كتباً: إذا جمع حروفه وأصل الكتب ضمّك الشيء إلى شيء»(10) . فكلا اللفظين -القراءة والكتابة- يدل على جمع الأشياء وضمّها إلى بعضها، وكأنهما لفظان مترادفان.

ومع ذلك فبينهما اختلاف في اللحاظ، فالقرآن جمع للحروف في حال التلفظ، ولهذا قال الراغب في المفردات «القراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل»(11) ، بينما الكتاب جمع للحروف في حال آخر وهو التثبيت على الورق وشبهه، ويُعرَف ذلك من الاستعمالات القرآنية، كما في قوله سبحانه ﴿وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ(12) . وكأن الإشارة هنا إلى الفارق بين المدوَّن والمقروء، فكتاب الله عز وجل مدوَّن ومقروء، ولذلك آثار سنأتي عليها.

لهذا فالمقصود بالكتاب: الجامع للأشياء المثبَتة خطِّيّاً، وهي هنا التعاليم والأحكام والعبر وأخبار الماضي والحاضر وما إلى ذلك. فهذا الجامع نزّله الله سبحانه وتعالى تدريجاً على النبي صلى الله عليه وآله بالحق.

فما المقصود بالحق هنا؟
مفهوم الحق متشعِّب، وله أبعاد لغوية وفلسفية، كما له تطبيقات فقهية وقانونية متعددة، وقد تحدّثتُ عنه مفصلاً في دراسات أخرى(13) ، وسأذكِّر في هذا المقام بما توصّلتُ له هناك في خصوص البحث اللغوي فقط.

فقد فُسِّر الحق عند أهل اللغة تارة بأنه خلاف الباطل، وتارة بمعنى الوجوب والثبوت، والظاهر أن الثاني نتيجة تلقائية للأول.

فقد قال صاحب المقاييس «حقّ: الحاء والقاف أصل واحد وهو يدل على إحكام الشيء وصحته، فالحق نقيض الباطل»، ثم قال «ويقال حقَّ الشيء: وجب»(14) .

وهكذا قال المصباح «الحق خلاف الباطل»، ثم قال «وهو مصدر حقّ الشيءُ من بابي ضرب وقتل إذا وجب وثبت، ... وحققتُ الأمر أُحِقُّه إذا تيقّنته أو جعلته ثابتاً لازماً»(15) .

وفي لسان العرب «الحق: ضد الباطل»، وفيه أيضاً «حقّ الأمر ويحقّ حقوقاً: صار حقاً وثبت، قال الأزهري: معناه وجب يجب وجوباً، وحقّ عليه القول وأحققته أنا. وفي التنزيل:﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ (16)  أي ثبت، قال الزجاج هم الجن والشياطين، وقوله تعالى ﴿وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ(17)  أي وجبت وثبتت، وكذلك ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ (18)  وحقه يحقه حقاً وأحقه، كلاهما أثبته وصار عنده حقاً لا يشك فيه»(19) .

وقد استنبط الفقيه الأصفهاني من هذه الكلمات أن الحق مفهوماً يعني شيئاً واحداً وهو الثبوت، كما هو ظاهر عبارته التالية: «وأما الحق فله في اللغة معانٍ كثيرة، والمظنون رجوعها إلى مفهوم واحد، وجعل ما عداه من معانيه من باب إشتباه المفهوم بالمصداق، وذلك المفهوم هو الثبوت تقريباً، فالحق بمعنى المبدء هو الثبوت، والحق بالمعنى الوصفي هو الثابت، وبهذا الاعتبار يطلق الحق عليه تعالى لثبوته بأفضل أنحاء الثبوت الذي لا يخالطه عدم أو عدمي، والكلام الصادق حق لثبوت مضمونه في الواقع»(20) .

وبالتالي فقول اللغويين (خلاف الباطل) أو (نقيض الباطل) يعني أن له وجوداً ثابتاً، باعتبار أن الباطل لا وجود له من رأس، أي أنه نوع من الكذب، وفي مقابله الصدق، أي الوجود الواقعي.

والثبوت المقصود هنا يعني أنه ثابت في نفسه، وقد يكون بمعنى الثبوت للغير إذا أُسند الحق إليه، فإذا قيل عن الشيء أنه حق كان بمعنى الثبوت في نفسه، وأما إذا قيل بأنه حق لفلان فهو يعني أنه ثابت له.

ولاشك أن الحق لغوياً يتضمن معنى الثبوت، لورود هذا المعنى في كلمات اللغويين، لكن الكلام هل المراد الثبوت فقط، أم هناك لحاظ آخر؟

يلاحَظ في تعريفات اللغويين المذكورة أعلاه ورود لحاظ آخر بضميمة الثبوت، وهو الوجوب في بعضها، واللزوم في بعض آخر.

فهل المراد هنا بالوجوب ما يرادف الثبوت، كما قد يظهر من عبارة لسان العرب حيث أنه عرّف الثبوت بالوجوب، قال «حقّ الأمر ويحقّ حقوقاً: صار حقاً وثبت، قال الأزهري: معناه وجب يجب وجوباً»، بل ذكر المقاييس الوجوب دون الثبوت، قال «حق الشيء: وجب».

أم أن في الوجوب لحاظاً إضافياً، كما قد يظهر من عبارة المصباح حيث أنه عطف الثبوت على الوجوب، قال «وجب وثبت»، والعطف يدل على المغايرة ولو النسبية، كما أنه ذكر حالين للحق وهما الثبوت واللزوم، قال «وحققتُ الأمر أُحِقُّه إذا تيقّنته أو جعلته ثابتاً لازماً».

ويضاف إلى ذلك أيضاً اعتبار ولحاظ آخر في تعريف الحق نصَّ عليه اللغويون، وهو اليقين والمطابقة التامة للواقع، ففي العبارة الأخيرة للمصباح نُصَّ على اليقين «تيقّنته»، وفي المقاييس نُصَّ على الإحكام والصحة «حقّ: الحاء والقاف أصل واحد وهو يدل على إحكام الشيء وصحته».

والظاهر وجود مغايرة ولو من جهة بعض اللحاظات لا جميعها، أي ليس من الضرورة أن يكون التغاير بمعنى التباين المطلق، فيكفي أن يكون بمعنى العموم والخصوص من وجه، والظاهر أنه كذلك، وذلك أن اللغويين يعتمدون في تعريف الألفاظ وتشكيل معانيها على الإستعمالات العرفية عند قدامى العرب:

فالعرب تارة يستعملون اللفظ في معنى ومجال واحد فقط، فيُفْهَم بذلك أن معنى اللفظ هو هذا لا غير، كما هو ظاهر استعمالاتهم للفظ (صنم)، وهو الشيء الذي يُتَّخَذ للعبادة، مع بعض التفاصيل لسنا بصددها في هذا المقام، ولذا قال صاحب المقاييس «صنم: كلمة واحدة لا فرع لها»(21) .

وتارة يستعملونه في معانٍ ومجالات حقيقيّة متعددة، فيُفْهَم بذلك وجود اشتراك لفظي، كلفظ (عين) المستعمَل في العين الباصرة والعين النابعة وغيرهما على نحو الحقيقة(22) ، وكلفظ (ظنَّ) المستعمَل بمعنى تيقّنَ وبمعنى شكَّ على نحو الحقيقة بحسب الظاهر(23) ، وكلفظ (شعب) الدال على الافتراق والاجتماع(24) ، وفيه قال الخليل الفراهيدي «من عجائب الكلام ووسع العربية أن الشّعب يكون تفرّقاً ويكون اجتماعاً»(25) .

وقد يستعملون اللفظ أيضاً في عدة مجالات لكن لا بمعنى الاشتراك اللفظي، وإنما بمعنى أن اللفظ يدل على مجموع ذلك في آن، والظاهر لمن له أنس بالكتب اللغوية أن غالب تعريفات اللغويين هي من هذا القبيل، ولهذا تجدهم في تعريف الألفاظ يستشهدون بأمثلة كثيرة من استعمالات العرب، بحيث يكون كل مثال يشير إلى جزئيّة من كُلِّي المعنى، كالذي نحن بصدده تماماً.

وبناء على ذلك فالذي يظهر أن لفظ الحق يُستعمَل بمعنى الوجوب، وبمعنى الثبوت أيضاً، كما يستعمل بمعنى المطابقة للواقع يقيناً. وكل واحد من هذه المعاني لا يعني الآخر وإن اتّحد معه في بعض الأجزاء، فالحق يعني المفهوم الجامع للوجوب والثبوت والمطابقة للواقع.

والوجوب هنا لا يعني الوجوب الذاتي العقلي، بحيث يكون معنى الحق: الواجب الوجود عقلاً في مقابل الممكنات العقلية، لأن الحق قد يكون واجباً وقد يكون ممكناً،وإنما يعني الوجوب العرفي، الذي يستمد الوجوب الشرعي منه معناه، فالوجوب هنا بمعنى اللزوم، ولهذا جاء في تعريف المصباح «جعلته ثابتاً لازماً»، فالحق في معناه يستبطن اللزوم، أي أن تكون الجهة التي عليها الحق ملزَمة به. فبالإضافة إلى كونه ثابتاً في نفسه، فإنه واجب على من هو عليه.

وليس هذا فحسب، بل ثمّة إضافة أخرى لمفهوم الثبوت، وذلك أن الثبوت مفهوم تشكيكي، أي يمكن أن تكون له مراتب، والثبوت في مفهوم الحق يرقى إلى أعلى المراتب، ولهذا أُخِذ في مفهومه المطابقةُ اليقينيةُ للواقع، فقد ورد قيد اليقين في عبارة المصباح المتقدمة، كما ورد أيضاً قيد الإحكام والصحة في عبارة المقاييس، وكلاهما يدلان على المطابقة التامة للواقع.

من جميع ذلك يمكن لنا استنباط المعنى الجامع لمفهوم الحق لغويّاً، فهو يعني: الثبوت المطابق للواقع برتبة اليقين، والواجب على من هو عليه، أي هو ثابت في نفسه يقيناً، وملزِمٌ لمن هو عليه.

فالحق لا يعني الثبوت المجرّد فقط، وإنما يضاف إليه لحاظان، أحدهما اليقين، والثاني الإلزام للغير. فإذا أُطلِق أُرِيدَ به هذا المعنى المركّب.

من جميع ما مضى بحثه يتضح لنا أن المعاني المدوَّنةَ ﴿الْكِتَابَ المنزَلةَ تدريجاً ﴿نَزَّلَ ثابتةٌ ومطابقةٌ للواقع يقيناً، وملزِمَةٌ ﴿بِالْحَقِّ لمن أُنزِلتْ عليه، وهو نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله ﴿عَلَيْكَ وأُمَّتُه، والاقتصار على ذكره عليه السلام في الآية لا يفيد الاختصاص، وإنما لأنه الواسطة والطريق الموصِل لتلك المعاني إلى سائر العباد.


1. المصدر نفسه، ج1 ص96. 2. الكافي، مصدر سابق، ج2 ص630. 3. البقرة 2. 4. الإسراء 9. 5. النمل 1. 6. النمل 1. 7. الحجر 1. 8. معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج5 ص78. 9. المصدر نفسه، ج5 ص158. 10. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، العلامة المصطفوي، ج10 ص20، مركز نشر آثار العلامة المصطفوي-إيران، الطبعة الأولى 1385هـ.ش. 11. مفردات غريب القرآن، مصدر سابق، ص402. 12. البقرة 282. 13. راجع كتاب (حرية التعبير عن الرأي الديني) التابع لسلسلة (حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي). 14. معجم مقاييس اللغة،مصدر سابق، ج2 ص15. 15. نقلاً عن التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مصدر سابق، ج2 ص305. 16. القصص 63. 17. الزمر 71. 18. يس 7. 19. لسان العرب، ابن منظور، ج10 ص49، نشر أدب الحوزة- قم، محرم 1405هـ. 20. حاشية كتاب المكاسب، الشيخ محمد حسين الأصفهاني، ج1 ص38، الناشر: ذوي القربى، الطبعة الثانية 1427هـ. 21. معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج3 ص314. 22. أصول الإستنباط، السيد علي نقي الحيدري، ص50، مكتبة الإمام الصادق عليه السلام-الكاظمية. 23. معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج3 ص462. 24. المصدر نفسه، ج3 ص190. 25. المصدر نفسه ص191.