مع أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وصّف مفهوم الهدنة بالمستوى الكافي، إلا أن المقداد أراد الاستزادة فسأل عن هذا المفهوم مستوضحاً (فقال: يا رسول الله وما دار الهدنة؟)، فأجابه عليه السلام (دار بلاغ وانقطاع).

ولو تأمّلنا قليلاً لوجدنا بأن هذه الإجابة تلخيص وتركيز لما جاء في المقدمة، فالتفصيل هناك يمكن تلخيصه في هاتين الصفتين (البلاغ والانقطاع)، كما سيتضح قريباً.

فما معنى البلاغ؟ وما معنى الإنقطاع؟

قال المازندراني: «البلاغ بالفتح اسم لما يتبلّغ ويتوصَّل به إلى الشيء المطلوب، وبالكسر مصدر بمعنى الاجتهاد، يقال: بالغ مبالغة وبلاغاً إذا اجتهد»(1). بالتالي فبالفتح تكون من التبليغ، وبالكسر من المبالغة، وفعل الأول بَلَغَ وبَلَّغَ، وفعل الثاني بَالَغَ.
وكذلك الانقطاع يحتمل معنيين، أولهما من القَطْع بمعنى النهاية والتوقف، الثاني بمعنى تركيز الجهد بتمامه في جهة معينة دون سواها.

والأقرب أن المراد من البلاغ المعنى الثاني، وذلك تناسباً مع المقدمة، نظراً لأنها تتكلم عن قِصَر الفرصة المتاحة في الحياة وسرعة انقضائها، ولا يمكن للإنسان استثمارها إلا بالمبالغة في الإتيان بالأعمال الصالحة كمّاً وكيفاً.

وذلك لا يتنافى أيضاً مع المعنى الأول، فقد يكون المعنيان مقصودين، وذلك بأن يكون المراد التبليغ، أي دار يُبَلَّغ فيها الإنسان برسالة ما تتضمّن تكاليف ووصايا، ولا يسعه الإتيان بكل ذلك للحصول على المراتب العليا عند الله سبحانه وتعالى إلا بالمبالغة في الجد والاجتهاد، بأن يأتي بأكبر قدر ممكن من الصالحات، وبكيفيّة عالية من الإتقان.

كما أن الأقرب في المراد من الانقطاع المعنى الأول، وذلك أيضاً تناسباً مع المراد من البلاغ، فإنما وجبت المبالغة في العمل لأن دار الدنيا سريعة الانقطاع والتوقف.

ولو قلنا أيضاً بأن الانقطاع يشمل تركيز الجهد، لما كان في ذلك أي تكلّف، فالدار التي تخرب سريعاً وتنتهي تتطلب من الإنسان المبالغة مع تركيز الجهد فيها، حتى يستثمرها بأحسن ما يكون الاستثمار والاستفادة.

وعلى كل حال فالنتيجة ستكون واحدة مهما كانت المعاني المرادة من اللفظين، فسواء اعتمدنا المعنى الأول أو الثاني في كليهما، فالنتيجة هي هي تقريباً، فدار الهدنة لأنها دارٌ تنتهي سريعاً، وجب على كل عاقل الإنقطاع والتفرّغ مع المبالغة الكمّيّة والكيفيّة في تأدية العمل الصالح والتكاليف الدينية الثابتة نقلاً وعقلاً التي بلغته ووصلت إليه. وهذه النتيجة هي ذاتها مفاد ما ورد في المقدمة مفصَّلاً، فما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله في المقدمة لخّصه في هذه الجملة (دار بلاغ وانقطاع).

بعد كل ذلك يأتي السؤال الذي ستجيب عليه الرواية بتفصيل: إذا كانت الدنيا بهذه الكيفية، وهذه هي حالها، فماذا ينبغي للمؤمن عملُه، أي كيف يستعدّ إليها، وقبل ذلك كيف يفهمها؟

ستؤكِّد الرواية هنا على محوريَّة القرآن الكريم، فهو الذي يجيبنا على السؤالين المذكورين. ولذلك عرَّفه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وبيّن قيمته العلمية بالشكل الذي يتناسب مع المقدمة، بالتالي فهذا التعريف بطبيعته يرشدنا إلى المنهج الصحيح في التفاعل مع كتاب الله عز وجل.

فكيف عرّف رسول الله صلى الله عليه وآله القرآن الكريم، وما هي قيمته العلمية؟.


1. شرح أصول الكافي، مولى محمد صالح المازندراني، ج11 ص10، دار إحياء التراث العربي- بيروت، الطبعة الأولى 2000م.