تلك كانت المقدمة وهي تشكِّل المحفِّز للتوجّه نحو القرآن، وما نحن فيه موضوع، بمعنى أن المقدمة إجابة على سؤال:

لماذا نتوجّه نحو القرآن؟، أما الموضوع فيجيب على سؤال آخر وهو: متى ينبغي التوجّه نحو القرآن؟

و(متى) هنا تعني: الظروف الزمانية والمكانية التي تفرض علينا التوجّه نحو كتاب الله عز وجل. لكن ذلك لا يعني عدم الحاجة لكتاب الله سبحانه إلا في هذه الظروف، بل الحاجة دائمة، لكن في هذه الظروف تزداد الحاجة.

فما المقصود بالفتن؟ وماذا يعني التباسها؟

الأصل في مادة فتن الإحراق للتمحيص، كما يستفاد من مجموع كلمات اللغويين، ففي المصباح «أصل الفتنة من قولك فتَنْتُ الذهب والفضة إذا أحرقته بالنار ليبين الجيد والرديء»(1) ، وفي الصحاح «قال الخليل الفراهيدي: الفَتْن الإحراق. قال الله تعالى ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ(2) ، وورِق فتين أي فضة محرقة»(3) وفي المقاييس «شيء فَتِين أي مُحْرَق»(4) ، وهكذا في لسان العرب «فتن: جماع معنى الفتنة: الابتلاء والامتحان والاختبار، وأصلها مأخوذ من قولك فتنتُ الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميَّز الرديء من الجيد»(5) .

ويضاف لذلك لحاظ آخر في مادة (فتن) وهو الميل، كما هو واضح من عبارة المصباح «فتن المال الناس من باب ضرب فتوناً: إستمالهم. وفُتِن في دينه وافتُتِن أيضاً: مال عنه»(6) . وما نقله ابن منظور عن ابن الأنباري «وقولهم: فَتَنَتْ فلانةٌ فلاناً، قال بعضهم: معناه أمالته عن القصد، والفتنة في كلامهم معناه: المميلة عن الحق»(7) .

إذاً هناك عنصران مكوِّنان لمفهوم الفتنة، قد يكون أحدهما سبباً والآخر نتيجة، وقد يكونان في عرض واحد، وهما:
الإحراق بهدف التمحيص.
الميلان عن الهدف المنشود.

فالفتنة هي نوع من الإمتحان القاسي الكاشف عن حقيقة الإنسان ومستوى صدقه وثباته، وهذا ما يوحيه معنى الإحتراق، وعدم التزوّد بالطاقة الكافية في ظرف هذا الإمتحان يجعل الإنسان مهيّئاً للميل عن الحق والإبتعاد عن الهدف الذي خُلِق من أجله، وهو ما يعطيه معنى الميلان.

هذا ما يعنيه مفهوم الفتنة، فماذا يعني التباسها؟

اللبس كما في المقاييس «أصل صحيح واحد يدل على مخالطة ومداخلة... واللبس اختلاط الأمر، يقال لبَست عليه الأمر ألبِسُه بكسرها قال الله تعالى ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ(8) ، وفي الأمر لبسة، أي ليس بواضح، واللبس اختلاط الظلام»(9) . وهكذا في الصحاح(10)  والمصباح(11) .

فاللبس يعني الإختلاط أي تشوّش الأفكار وتداخل الأمور بالشكل الذي  تصبح فيه الحقائق غير واضحة.

بالتالي فالتباس الفتن يعني الظروف الزمانية والمكانية التي يشيع فيها الشك المطلق لأسباب خارجية، قد تكون ثقافية أو سياسية أو اجتماعية، وهو عيناً ما أُطلِقَ عليه في بعض الأخبار بالأشياء المختلفة المغموسة، فقد ورد في تفسير العياشي «عن الحارث الأعور قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فقلت: يا أمير المؤمنين إنا إذا كنا عندك سمعنا الذي نسد به ديننا، وإذا خرجنا من عندك سمعنا أشياء مختلفة مغموسة، لا ندري ما هي؟ قال: أَوَ قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أتاني جبرئيل فقال: يا محمد سيكون في أمتك فتنة، قلت: فما المخرج منها؟ فقال: كتاب الله...» (12) .

وأيضاً هو الذي وصّفه الإمام علي عليه السلام في كلمته المشهورة (إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجالاً على غير دين الله) (13) .

فالتباس الفتن بالمعنى المذكور هو الذي اعتبره النبي الأكرم صلى الله عليه وآله موضوعاً للحكم المتعلق بالقرآن الكريم، فإذا تحقق هذا الموضوع وجب الرجوع إلى كلام الله عز وجل. لكن لهذا الموضوع مواصفات أيضاً، فالنبي عليه السلام ولمزيد من البيان فصّل الحديث في الموضوع من خلال التأكيد على آثاره الثقافية، فلنر ما هي تلك الصفات.


1. المصباح المنير، نقلاً عن التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مصدر سابق، ج9 ص22. 2. الذاريات 119. 3. الصحاح، مصدر سابق، ج6 ص217. 4. معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج4 ص 473. 5. لسان العرب، مصدر سابق، ج13 ص319. 6. المصباح المنير، نقلاً عن التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مصدر سابق، ج9 ص22. 7. لسان العرب، ج13 ص319. 8. الأنعام 9. 9. معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج5 ص230. 10. الصحاح، مصدر سابق، ج3 ص973. 11. المصباح المنير، نقلاً عن التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مصدر سابق، ج10 ص177. 12. تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، ج1 ص3، المكتبة العلمية الإسلامية-طهران. 13. نهج البلاغة، الإمام علي عليه السلام، ج1 ص99، دار الذخائر- قم، الطبعة الأولى 1412هـ.