الوقوف ولو يسيراً عند هذه الصفة ضروري، لأنه يكشف لنا عظمة الحُكْم المترتب على تحقق الموضوع، وما يحمل ذلك الحُكْم في طيّاته من حِكَم ووصايا عظيمة، تشكِّل الضمانة الحقيقية لسلامة مسيرة الإنسان، والعلاج الناجع لأمراضه.

فكأن الرواية تقول حتى لو بَلَغَتْ الفتنة أعلى مستوياتها، وأصبحتْ كقطع الليل المظلم، فإن الحُكْم (= وهو هنا يعني الوقاية والعلاج بلا فرق) سيكون وافياً.

يبدو لا سواد في الكون أكثر سواداً من قطع الليل المظلم، فإذا شُبِّهَتْ الفتنة به، دل ذلك على وصول الفتنة إلى أعلى مستوياتها وأخطر مراتبها، مع ذلك فالعلاج سيكون قادراً على تجاوز الفتنة تلك، وإعادة النور من جديد.

فماذا يعني: قطع الليل المظلم؟

لم يقل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله كالليل المظلم، وإنما كقطع الليل، وذلك أبلغ في تصوير المعنى، فالليل المظلم يعني الظلام بلا شك، ولكن القطع تعني تراكم الظلام بعضه فوق بعض، قطعة ظلام فوقها قطعة فوقهما قطعة وهكذا، وذلك يدلل على شدة الظلام، وعلى نوعية الفتنة، ففي الفتنة لا يكون الأمر مجرد ظلام، وإنما ظلام فوقه ظلام، يتبعهما ظلام، حتى لا يُرَى شيءٌ من النور، بل ذلك يجعل الإنسان بعيداً عن النور، لأن قطع الظلام لا يتخللها أي نور.

وهذا الإستعمال مقتبس من كلام الله عز وجل، فقد قال سبحانه ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً(1) ، بينما قال جلت قدرته في آيتين ﴿بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ(2) .

ففي الآية الأولى وُصِفَ الليل بالمظلم، ولم يُوصَف به في الآيتين الأخريتين، فما الدلالة في ذلك؟

أجاب على ذلك ابن عاشور في تفسيره، قال «ووصف الليل وهو زمن الظلمة بكونه مظلماً لإفادة تمكن الوصف منه، كقولهم: ليل أليل، وظل ظليل، وشعر شاعر، فالمراد من الليل الشديد الإظلام، باحتجاب نجومه وتمكن ظلمته»(3) . والظاهر هو ذلك، إذ يكفي في التدليل على الظلام بأن يقال كالليل، لأنه بذاته مظلم، فإذا وصف بالظلام دل ذلك على نوع من التأكيد، أي التأكيد على الظلمة وعلى شدتها، خصوصاً بعد ملاحظة أن ظلمة الليل عنوان تشكيكي، نظراً لأن مستوى الظلمة يختلف من ليلة إلى أخرى ومن ساعة إلى أخرى، فالليلة المقمرة تكون الظلمة فيها أخف من غير المقمرة، ومنتصف الليل الظلمة فيه أشد من أوائل الغروب.

لهذا عندما يقال الليل المظلم، فإنه يراد الليل الأشد ظلاماً، من حيث الساعة المظلمة والليلة المظلمة.

والظلام هنا إشارة إلى الأفكار، ففي الفتنة تتراكم الأفكار الظلامية البعيدة عن الهدى والحق، لدرجة لا يظهر أمام الإنسان أي نور يشير إلى الحقيقة، إما بسبب كثرة الجحود، أو بسبب تنامي الثقافات الشكية.

إذاً القطع هنا تعني الأفكار والمعتقدات الباطلة المتراكمة على بعضها البعض، إلى درجة لا يظهر فيها أي نور وأي أثر للحقيقة.
في مثل هذه الحالة ما هو الملجأ؟


1. يونس 27. 2. هود 81. الحجر 65 3. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، ج11 ص66، مؤسسة التاريخ-بيروت، الطبعة الأولى.