إن قوله سبحانه في عجز الآية الثالثة ومطلع الآية الرابعة ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ يفيد بأن الكتابين نزلا بشكل كامل دفعة واحدة. فمع أننا قرَّرنا مسبقاً بأن الإنزال وإن كان يعني النزول الدفعي، لكن ليس من الضرورة أن يكون شاملاً للكتاب بكامله، إلا أننا هنا نقول بالدفعية والكتاب بكامله، وذلك للأسباب التالية:

إنما قلنا بالنسبة للقرآن بالدفعية والتبعيض، لوجود النص القائل بالتدريج، كما هو مبيَّن في البحث السابق، وذلك لم يثبت بالنسبة للتوراة والإنجيل، حيث لم يرد نص يؤكد على التنزيل التدريجي لهما. فالذي دفعنا للقول بالتبعيض بالنسبة للقرآن إنما هي النصوص القائلة بالتدريج، إذ لا سبيل للتوفيق بين نصوص الدفعية ونصوص التدريج إلا القول بالتبعيض في خصوص الإنزال، وإلا فالأصل في الدفعية نزول الشيء بكامله دفعةً واحدة.

كما بالنسبة للقرآن توجد قرائن تفيد التبعيض في الإنزال، كذلك بالنسبة للتوراة والإنجيل توجد قرائن تفيد الإنزال الكامل، فالتوراة مثلاً نزلت عندما واعد الله سبحانه موسى عليه السلام الليالي الأربعين، وهو المورد الوحيد الذي ذكره القرآن بخصوص نزول التوراة، فبالنسبة للميعاد قال سبحانه ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً(1) ، وفي هذا الموعد أُنزِلَتْ التوراة وهي الألواح في التعبير القرآني، فقد قال سبحانه في سياق الحديث عن هذا الموعد ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا(2) ، فبعد انقضاء المدة أنزلت عليه الألواح، و﴿الْأَلْوَاحِ جمع محلّى باللام يفيد العموم، وهو يفيد هنا التوراة كاملاً، أي جميع آياتها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تأكيد الآية على أن الألواح تتضمن مواعظ وتفصيل لكل شيء، وذلك قرينة أخرى على أن المقصود التوراة كاملاً.

فالتوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة، وهو يعني بحسب الظاهر عدمَ تأطُّرهما بأسباب للنزول كما كان النص القرآني، وبتعبيرآخر: لماذا أُخِذَ بالإعتبار الزمان والمكان والأحوال بالنسبة لنزول آيات القرآن الكريم، ولم يؤخذ أي شيء من ذلك بالنسبة لنزول التوراة والإنجيل؟. بلا شك إن لذلك دلالات مهمة سنتعرّض لها في بحوث قادمة.

ثم إن هذا الإنزال كان ﴿مِنْ قَبْلُ، أي من قبل نزول القرآن الكريم، فالقبلية هنا من حيث الزمن، لا من حيث المكانة والشأن، ولا من حيث العلم الإلهي.

لماذا التوراة والإنجيل؟

واضح هنا أن الآية المباركة خَصَّتْ التوراة والإنجيل بحديث، وذلك يعني نوعاً من الاهتمام، أي نوعاً من الخصوصية تعطيه الآية لهذين الكتابين. كيف؟

اتضح لنا من الحديث السابق أن المقصود من قوله سبحانه ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ: الكتب السماوية جميعها التي سبقت القرآن الكريم من حيث الزمان، ولا شك أنها تشمل التوراة والإنجيل، فلماذا إذاً ذكرتهما الآية بعد ذلك بخصوصهما، ولم تذكر غيرهما، سواء الذي جاء قبلهما ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ(3) ، أو بينهما ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ (4) ؟.

الظاهر لأهميتهما من جهة، ولتداولهما من جهة أخرى، لأن صحف إبراهيم عليه السلام وزبور داود عليه السلام لم يبق لهما ذكر نظري ولا حضور عملي في حياة الموحدين الذين عاصروا النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، فلم يبق منهما إلا الإسم، وأما من كان على الحنيفية قبل بداية الدعوة الإسلامية فقد كان يعمل بما أثر عن إبراهيم الخليل عليه السلام شفاهاً، إذ لا دليل على وجود كتاب في تلك الحقبة الزمنية يدعى صحف إبراهيم. إضافة إلى محدودية العدد، فقد «بقيت الحنيفيّة محصورة في أفراد قلائل متناثرين في القبائل الجاهلية، ولم تكن ظاهرةً واسعةً في حياة العرب الجاهليين الدينية في تلك الفترة التي وصلتنا أخبارها»(5) ، ولم يُعْرَف لها منتسبون إلا القليل كآباء النبي عليهم السلام، وزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وبعض آخر(6) . كما أنهم لم يكونوا يشكِّلون قوة مناهضة للدعوة النبوية أو مشكِّكة في صحة ارتباطها بالله سبحانه، على العكس من اليهود والنصارى الذين كانوا يناصبون النبي صلى الله عليه وآله العداء.

فالحنيفية لم يبق لها أنصار إلا قلة، وغير مناهضة للدعوة الإسلامية في الغالب، وأما الكتاب السماوي التابع لها المتمثل في صحف إبراهيم الخليل عليه السلام فلم يثبت وجود شيء منه، وهكذا بالنسبة لزبور داود عليه السلام، فليس له ظهور اجتماعي وأتباع، إضافة إلى أن أكثره حِكَمٌ ومناجاة وليس أحكاماً(7) ، وأما الزبور نفسه ككتاب فلا وجود له.

لهذا فالمشكلة الأساس منحصرة في أَتْبَاع التوراة والإنجيل، أي اليهود والنصارى، وبالتالي فذلك يعني:

أولاً: أهمية الكتابين بين سائر كتب السماء، باستثناء القرآن الكريم.

ثانياً: إشعار اليهود والنصارى بأن القرآن يسير في خط واحد مع التوراة والإنجيل، لأنهم جميعاً من مصدر واحد، ويدعو إلى القيم والتعاليم نفسها التي يدعو إليها الكتابان.


1. الأعراف 142. 2. الأعراف 145. 3. الأعلى 19. 4. الأنبياء 105. 5. منتدى القضايا الأدبية واللغوية، الشبكة العنكبوتية. 6. المصدر نفسه. 7. أنظر تفسير القرطبي، مصدر سابق، ج6 ص17.