فيما مضى تحدثنا عن نوعية الظروف الشكية التي تجتاح الساحات الفكرية في كل عصر، لكن ما هو الملاذ في تلك الساعة؟

هذا ما يجيب عنه هذا  المقطع  المختصر. فهو يقول بأن الملاذ كتاب الله عز وجل، وذلك يكشف بلا ريب عظمة هذا الكتاب.

إذ أن المشكلة كبيرة جداً كما اتضح من التفصيل السابق، وأخطر ما فيها خفاء الحقائق بسبب شيوع الأفكار الشكّيّة. ولا يمكن اكتشاف تلك الحقائق في زحمة الشك والريب إلا من خلال كلام الله عز وجل. فهو الكلام الوحيد الذي تتوفر فيه صفة الكشف تلك حتى في الظروف الفكرية الصعبة، أي حين التباس الفتن. فذلك بلا شك دليل على عظمة النص القرآني وأهميته في الحياة الفكرية.

وربما لسائل أن يسأل: هل للقرآن الكريم مميزات جَعَلَتْ فيه هذه القدرة من الكشف عن الحقائق، بالرغم من تزاحم الأفكار وتداخلها، وصعوبة التمييز بين الصحيح والسقيم منها؟

هذا ما وجَّه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله في خطابه عن القرآن الكريم في هذا السياق، فهو عليه السلام لم يدْعُ للقرآن بصورة مبتورة، وإنما كشف الأسباب التي تدعو للعودة للقرآن، والمميزات التي يتميز بها حتى جعلَتْه في مستوى كافٍ من  الكشف عن الحقائق.

وينبغي إلفات النظر هنا، بأن التأكيد على تلك المميزات الآتي ذكرها، يُعَلِّمنا المنهج الصحيح للتعامل مع النص القرآني والاستفادة منه، فليس كل من نظر في هذا النص تعلَّم منه، بل ربما يزيده النظر بُعْداً عن الحقائق، بسبب الخطأ في المقدمات، وعدم الدقة في المنهج، وقد أشارت الآيات المباركة إلى هذا الأمر مراراً، كما في قوله سبحانه ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ(1) ، وقد جاء في تفسير هذه الآية عن الباقر عليه السلام: (شكاً إلى شكهم) (2) . فالآيات مع أنها تحمل مقومات الهداية والكشف التام عن الحقيقة بالمستوى الذي يبعث اليقين في قلب القارئ لها، كما حصل ذلك فعلاً في الصورة الأولى التي ذكرتها الآية، حيث أنها زادت المؤمن إيماناً ويقيناً، إلا أن الصورة الثانية كشفت أن هناك من لا تزيده حتى مثل هذه الآيات إلا شكاً إلى شكه، وهو المراد من الرجس. ولاشك أن ذلك يعود للخطأ في المقدمات والمنهج.

إذاً فقول الرسول صلى الله عليه وآله (فعليكم بالقرآن) يدلل على أنه المرجع في كشف الحقائق، ليس في حال الأُحادية الفكرية حين لا يكون في البين فكرٌ آخر مغاير، بل حتى لو ازدحمت الأفكار وتراكمت المفاهيم والنظريات بحيث خَفِيَتْ الحقايقُ على أكثر الناس بسبب توحّد وتفرّد الأفكار الشكّيّة وكثرة شيوعها، ولكن بشرط التدقيق في المقدمات والمنهج العلمي القرآني. وهو ما سيأتي التأكيد عليه في كلام النبي صلى الله عليه وآله.

ومعلوم أن الظرف الفكري الشكِّي لا يقتصر على تزاحم الأفكار الإنسانية الحاملة للشك -لا مطلق الأفكار الإنسانية، ففيها ما هو حمّال لليقين والحقائق الموضوعية-، بل يشمل أيضاً تزاحم النقولات الروائية التي تولِّد الشكوك حتى في الأوساط الدينية بالمعنى الأخص، ففي مثل هذا الظرف أيضاً يلزم الرجوع إلى القرآن والتعامل معه كقيمة معيارية للتمييز بين السليم والسقيم، أي للكشف على الحقائق الضائعة في زحمة المنقولات الروائية.

فقد ورد التأكيد على هذا المنهج في العديد من الأخبار، كما في صحيح هشام بن الحكم(3)  عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خطب النبي صلى الله عليه وآله بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله. (4)

وصحيح أيوب بن الحر، قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف. (5) 

فالقرآن الكريم هو القيمة المعيارية الكاشفة على الحقائق الموضوعية في سائر الظروف الشكية. لكن لماذا وكيف أصبح بهذا المستوى من القيمة العلمية، وبماذا تميَّز حتى حظي بهذه المكانة؟

هذا ما سنقع عليه تفصيلاً في الكلام القادم لنبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله، وهو بمثابة المنهج العلمي للقراءة الصحيحة للقرآن الكريم.


1. التوبة 124-125. 2. تفسير نور الثقلين، الشيخ الحويزي، ج3 ص192، مؤسسة التاريخ العربي-بيروت، الطبعة الأولى 2001م. 3. محمد بن يعقوب الكليني، عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم وغيره. 4. الكافي، مصدر سابق، ج1 ص69. 5. المصدر نفسه.