أولى المميزات التي وصَّف بها نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله القرآنَ الكريم، والتي اعتبرها أسباباً علميةً للتمسك به والرجوع إليه في ظروف الفتن الفكرية، ما جاء في قوله عليه السلام (فإنه شافع مشفّع)، فما دلالة هذه الميزة؟

قبل البحث في الدلالة النهائية لهذه الصفة، لابد من إرجاع هذا الاستعمال إلى أصله.

إن مادة (شفع) يظهر منها في اللغة أمور ثلاثة:

الأول: الضم، أي ضم شيء لآخر.

الثاني: الاقتران، أي جعل الأول بمنزلة القرين للثاني.

الثالث: الزيادة.

فالشَّفْع يعني ضمُّ شيء ما إلى شيء آخر أعلى منه قيمة ومكانة، بالمستوى الذي يجعله قريناً له وكأنه بمنزلته أو رفيقه وصاحبه، وبوجه يوجب الزيادة، إما الزيادة اللازمة من الضم نفسه، لأنه يجعل الشيء الواحد شيئين، أو يجعله شيئاً واحداً أكبر، كما في الشفعة الحاصلة في الشراكة بحسب ما هو معروف فقهياً. فهذا وجه من وجوه الزيادة، والوجه الآخر الزيادة المعنوية، لأن ضم الأَدْوَن إلى الأعلى يرفع من شأن الأَدْوَن ويكسبه شيئاً من الرِّفْعة والسمو، وهو نحو من أنحاء الزيادة، ولعله الأعمق، والظاهر أنه المراد من الشفاعة يوم القيامة.

فعن الأول قال صاحب المصباح «شفَعت الشيء شَفْعاً من باب نفع: ضممته إلى الفرد، وشفعت الركعة: جعلتها ثنتين، ومن هنا اشتقّت الشفعة لأنها يشفع ماله بها»(1) .

وعن الثاني يقول صاحب المقاييس «شفع: أصل صحيح يدل على مقارنة الشيئين»(2) .

وجاء في التهذيب عن الثالث «الشفع: الزيادة، وعين شافعة تنظر نظرين، وعن أبي العباس: سئل عن اشتقاق الشفعة في اللغة فقال: الشفعة: الزيادة، وهو أن يشفّعك فيما تطلب حتى تضمه إلى ما عندك فتزيده وتشفعه بها، أي تزيده بها»(3) .

بهذا يكون المعنى الجامع لهذه المادة (شفع): ضم شيء ما إلى شيء آخر أعلى منه قيمة، بنحو يجعل الأول قريناً للثاني مع أفضلية الثاني، مما يستوجب زيادة الفضل والمقام بالنسبة للأول.

فالشفع ضمٌّ، لكن لا بأي نحو، وإنما هو ضمٌّ يجعل المضمومَ وكأنه بمنزلة الضام، والجعل في هذه المنزلة يعطي المضموم قيمة أعلى من التي كان عليها قبل الضم.

بهذا المعنى المذكور فالقرآن الكريم (شافع)، فهو يضم المتمسكَ به إليه، ويجعله قريناً وصاحباً له، فيمنحه بذلك مكانة وشأناً رفيعاً، بلا قيدية في كل ذلك من الحيث الزماني والمكاني، فالقرآن شافع بهذا المستوى دنيوياً وأخروياً.

لكن ليس من الضرورة أن تكون كلُّ شفاعة مقبولة، إذ أن القبول والرفض مرهون بشروط كثيرة، من أهمها:

علو شأن الشفيع -الشافع-(4).

قابليّة المشفوع للشفاعة، وهذه القابليّة لا تتأتى إلا إذا كانت العلاقة بين الشفيع والمشفوع صادقة وقريبة بحيث يتضح للشفيع من خلالها صدق نية المشفوع.

بناءً على ذلك ينبغي أن نعلم بأن القرآن الكريم في الوقت الذي هو (شافع)، فإنه أيضاً (مشفَّع)، أي مقبول الشفاعة، فالمشفَّع بشدّ الفاء المفتوحة مَنْ تُقبَل شفاعتُه(5) ، وهذا التفسير متطابق مع ما ورد عن مولانا إمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام:(واعلموا أنه شافع مشفَّع، وقائل مصدَّق، وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه) (6) .

فالقرآن الكريم بالإضافة إلى كونه شافعاً بالمعنى المذكور، فإن شفاعته مقبولة عند الله عز وجل. وهذا ما يزيد القرآن مكانةً وشأناً من الناحية الذاتية، ويزيده أهميّةً من الناحية العملية لما له من أثر في مسيرة الإنسان الدنيوية والأخروية، حيث أن التمسك به في الدنيا يجعل الإنسان مهيَّئاً ليكون مشمولاً لشفاعة القرآن في الأخرى، مع العلم بأنه لا يكون مشمولاً كذلك إلا لأنه كان على الهدى بسبب تمسكه بالقرآن.

وذلك يفيد بأن التمسك بالفكر القرآني لا يقتصر على تزويد الإنسان ببعض المعلومات العلمية، بل يجعله من جهةٍ على الهدى، ومن جهة ثانية قابلاً لشمول الشفاعة له، فهو فكر يأخذ بيد الإنسان في الدنيا ويسير به على هدى ليصل به إلى الآخرة.


1.المصباح المنير، مصدر سابق، نقلاً عن التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مصدر سابق، ج6 ص98. 2.معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج3 ص201. 3.أنظر التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مصدر سابق، ج6 ص99. 4.يصح الوجهان، فإسم الفاعل لهذه المادة: شفيع، وشافع، فكلاهما يعطيان معنى واحداً بلا أي فرق. أنظر المصدر نفسه، ص98، نقلاً عن المصباح المنير، مصدر سابق. 5.شرح أصول الكافي، المازندراني، مصدر سابق، ج11 ص10. 6.نهج البلاغة، خطب الإمام عليعليه السلام، ج2 ص92، دار الذخائر-قم، الطبعة الأولى 1412هـ.