صفة أخرى ملازِمَة لكتاب الله عز وجل يؤكد عليها النبي الخاتَم صلى الله عليه وآله، حيث يقول (وماحل مصدّق)، فماذا يعنى هذا التركيب؟

أمّا (ماحل) فقد استُعْمِلَتْ هذه الصفة في النص القرآني في قوله سبحانه ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ(1) .

وفي كتب اللغة (المحل) له استعمالات ثلاثة:

قلة الخير(2)  والجوع الشديد(3) ، ولذا قالوا بأن المحل: انقطاع المطر ويُبس الأرض من الكلأ(4) .

السعاية والوشاية(5) ، والظاهر لا يراد مطلق السعاية والوشاية، بل ما يستبطن العداوة أيضاً، فقد جاء في لسان العرب «ماحَله مماحلة ومِحالاً: عاداه»(6) .

الكيد والتوسّل بالحِيَل(7)  أمام الخصم، ومنه ما جاء في اللسان «فلان يماحل عن الإسلام، أي يماكِر ويُدافع»(8) .

والظاهر جريان هذه المادة في الإستعمالات الثلاثة نحو مستقل، أي كلُّ استعمال على حدة، وليس من الضرورة اجتماعها بأجمعها في استعمال واحد، بل ذلك بعيد، نعم يمكن اجتماع الثاني والثالث في آن.

هذا مع العلم بأن بعض اللغويين اعتبروا المحل أصلاً له معنيان فقط، وهما الأول والثاني دون الثالث(9) ، ولذلك لم يذكروا موارد استعمالاته إلا فيهما، لكن بالرجوع إلى كلمات لغويين آخرين والنظر في الإستعمالات الجارية في الكلام العربي التي نقلوها، يتبين شمول هذا الأصل على استعمال آخر وهو الثالث هنا.

بل هناك من لخّص جميع الإستعمالات في معنى واحد، فجعل كل استعمال لهذه المادة لا يراد منه إلا ذلك المعنى، قال «الأصل الواحد في المادة: هو التضيّق من جهة النعمة والسعة مطلقاً. ومن مصاديقه: تضيّق في الطعام والغذاء، تضيّق في السنة وشدة وجذب، تضيّق ويُبس في الأرض والنبات، تضيّق واحتباس في  المطر، تضيّق من جهة الصفات الباطنية وظهور الغضب والحدّة، وتضييق في عيش الناس وتشديد في حياتهم بالكيد والحيلة والمكر والتدبير السيّء والعقاب والسعاية والمعاداة. فالأصل في المادة ما ذكرنا، وهو يختلف بحسب اختلاف الموضوعات، ففي كل شيء يتحقق التضيّق بحسب خصوصية حياته ووجوده»(10) .

فهو نظر إلى الاستعمالات الثلاثة على أنها نوعٌ من التضيّق، لكن ذلك تكلّف مبالَغ فيه، فالوشاية والسعاية ليست من التضيق في شيء، وكذلك المكر وافتعال الحيل، نعم قد يؤدي كل ذلك إلى نوع من التضييق، لكن ليس هو بنفسه تضيّقاً، فافتعال الحيل والمكائد قد يرجى منه التضييق على الخصم، وقد يكون ذلك أيضاً هدفاً للسعاية، لكن ذلك لا يعني أن السعاية في نفسهاتضييق ولا المكر وشبهه، بل كثير من الأفعال والأقوال قد تهدف إلى التضييق، وكثير من التضييق لا مكر فيه ولا خديعة.

لهذا فالظاهر بقاء الإستعمالات الثلاثة على حالها من الإستقلال، وإن اتحدت مع بعضها في بعض الموارد، حتى السعاية والوشاية من جهة والمكر والتوسل بالحيل من جهة أخرى، فالنسبة بينهما العموم والخصوص من وجه، فالسعاية قد تكون بدافع المكر وقد لا تكون، والمكر قد يكون عبر السعاية وقد لا يكون، فهما يتحدان في موارد ويفترقان في أخرى، وأيضاً قد يكون في كلٍّ منهما تضييق وقد لا يكون.

والظاهر أن ما نحن فيه هو من الموراد التي يتحد فيها الإستعمالان الثاني والثالث، وربما حتى الأول يكون له حضور هنا بصفته هدفاً لهما، فكما أن القرآن الكريم شافع ومشفَّع في حال العناية والإهتمام به، وهذا هو البعد الإيجابي للأمر، فإنه في الوقت نفسه (ماحل)يسعى ويشي بالعبد أمام ربه جلت قدرته في حال الإهمال والتقصير، وإذا سعى فلا تعوزه الحيلة والمكر، أي أن حُجَّته قوية، إلى درجة لا يسع الإنسان المقصِّر الإفلات والمراوغة، وهذا هو البعد السلبي.

والقرآن الكريم إذا مَحَلَ فإنه (مصدَّق)، أي أن الله سبحانه يصدِّقه ويأخذ بدعواه ويرتِّب عليها الأثر. والتصديق هنا بالمعنى الشامل نفسه الذي سبق شرحه حين وصف الإمام الصادق عليه السلام القرآن بـ (الصادق البار)، أي بمعنى المطابقة مع الحقيقة النظرية والعملية بأعلى المستويات.

هذا خلاصة ما يفيده قول النبي صلى الله عليه وآله (وماحل مصدّق)، فالقرآن يشي بالعبد أمام ربه متوسِّلاً بأقوى الحيل، وهو مصدَّق عند الله عز وجل.


1. الرعد 13. 2. معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج5 ص302. 3. لسان العرب، مصدر سابق، ج11 ص616. 4. معجم مقاييس اللغة، ج5 ص302. 5. المصدر نفسه. 6. لسان العرب، ج11 ص619. 7. المصدر نفسه، ص618. 8. المصدر نفسه، ص619. 9. معجم مقاييس اللغة، ج5 ص302. 10. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مصدر سابق، ج11 ص41.