(من جعله أمامه قاده إلى الجنة)

شرط ونتيجة: أن نجعل القرآن أمامنا شرط، والنتيجة يقودنا القرآن إلى الجنة، ما دلالة هذين الأمرين؟

والسؤال الهام هنا: كيف نجعل القرآن أمامنا، وقبل ذلك ما معنى أن يكون أمامنا؟

كون القرآن الكريم في الأمام يعني أنه قائد وهادٍ، قائد لأنه هو الذي يتولى تحريك الإنسان نحو الأهداف الكبرى، وهادٍ لأنه يأخذ بيد الإنسان إلى الطريق المستقيم حتى لا تزل قدماه ويسقط في العثرات، فهو يكون أَمامنا لأنه بمثابة الإمام الذي يقودنا في مسيرة الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية، ويعيننا على التمييز بين الموقف المتوازن المعبِّر عن الحق والموقف المتطرِّف المعبِّر عن الباطل.

وأما كيف نجعله أَمامنا، فذلك باتّباع هداه والالتزام بمفاهيمه ومعانيه. وسنأتي لاحقاً على تفصيل حول مفهوم الإتّباع.

بالتالي من جعل القرآن أَمامه بهذا المعنى، فإن القرآن الكريم يقوده في جادةٍ مستقيمة تنتهي به إلى الجنة. وهذا من أهم ما يتميز به النص القرآني على سائر الكلام البشري، لأن الثاني إنما يقدِّم مجرَّد قراءات للإنسان من غير أن يضمن له العاقبة الحسنة، باعتبار أنه يهتم بحدود الحياة الدنيا فقط، وأما الكلام الإلهي فإنه يقدِّم حقائق من شأنها تعبيد طريق الإنسان في الحياتين الدنيا والأخرى. فالكلام البشري من الدنيا إلى الدنيا، والكلام الإلهي من الدنيا إلى الآخرة.

(ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)

هنا القضية تكون عكسية، مؤدّاها أن يجعل الإنسانُ من نفسه قائداً للقرآن، بدل أن يكون القرآنُ قائداً له، وذلك له دلالتان:

الأولى: الإهمال، لأنه يتركه وراء ظهره وكأنه لا يعنيه.

الثانية: تطويع معاني القرآني إلى المستوى الذي يتلاءم مع مزاج الإنسان ومصالحه.

فالإنسان في هذه الحالة يقوم بدورين سيِّئين تجاه القرآن الكريم، إما إهمال أو تلاعب، فالإهمال معناه عدم العمل المطلق بالمعاني القرآنية والاكتفاء بما ينتجه الإنسان من معاني خاصة به وإن كانت متعارضة مع القرآن، والتلاعب يعني السعي في بعض الظروف للإتِّجار بالقرآن من خلال العبث بمعانيه وتجييرها للحصول على مكاسب دنيوية خاصة.

وينبغي أن نلاحظ هنا المقارنة بين المقطعين (من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)، فالأول نص على القيادة بينما نص الثاني على السوق، وفي اللغة «القود: نقيض السوق، يقود الدابة من أمامها ويسوقها من خلفها، فالقود من أمام والسوق من خلف»(1) .

بالتالي فالقيادة من الأمام تدلل من جهة على اليقين والمعرفة التامة بالطريق، لأن الذي في الأمام يكون كالدليل العارف بالطرق المستوية والوعرة، وبالتالي فهو لا يخشى شيئاً ولا يحذر، ويستطيع أن يتجنب بصاحبه أي عثرة، لما لديه من الوضوح والبصيرة التامة، ومن جهة أخرى وهي الأهم هنا تدلل على حُسْن الهدف الذي يسير باتجاهه القائد، ولذلك فهو يتقدم إلى الأمام وكأنه يريد أن يسبق إليه، أو لا أقل يريد أن يكون هو أحد السائرين إليه، ولولا حُسْنه لما كان هدفاً له.

 وأما السَّوْق من الخلف فيدلل على أن السائق غير مطمئن للطريق وغير عارف بها، بل قد يكون خائفاً وحذراً، ولهذا يتراجع للخلف ويدفع غيره للأمام، حتى لو وقع أي مكروه يصاب به الآخر وينجو هو، وذلك فيه نوع من المهانة لأنه يشير إلى أن الذين يساقون يؤخذون نحو جهة سيئة، ومن ذلك ما جاء في قوله سبحانه ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً(2) ، مع أن السوق قد يأتي في بعض المصاديق من باب التكريم، حيث يُقَدَّم صاحبُ الشأن الرفيع، كما في قوله سبحانه ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً(3) ، لكن الذي نحن فيه إنما هو المعنى الأول.


1.لسان العرب، مصدر سابق، ج3 ص370. 2.الزمر 71. 3.الزمر 73