يقول سبحانه بعد ذلك ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ، فما هو الفرقان، وما المائز بينه وبين الكتاب؟

أما الجانب الروائي فالظاهر منه أن الكتاب هو القرآن والقرآن هو الكتاب، والاختلاف إنما هو في اللحاظ، فإذا لُحِظَتْ الكتابةُ سُمِّيَ كتاباً، وإذا لُحِظَتْ القراءةُ سُمِّيَ قرآناً -وقد سبق الكلام في ذلك في تفسير الآية الثالثة-، ففي صحيحة ابن سنان المتقدمة قال الصادق عليه السلام: والكتاب هو جملة القرآن.

وكذلك في رواية الكافي المتقدمة قال الصادقعليه السلام: القرآن جملة الكتاب.

يبقى الفرق بين الكتاب والقرآن من جهة والفرقان من جهة أخرى، والظاهر من صدر صحيحة ابن سنان أن الفرقان هو المحكَم من الآيات، أي أنه أخص من الكتاب والقرآن، فقد ورد فيها:(والفرقان هو كل أمر محكم). كما ورد في رواية الكافي:(والفرقان المحكم الواجب العمل به)، والمحكم هو الواضح البيِّن الذي يمكن تمييزه عن غيره حيث لا تشابه ولا غموض فيه، ولعل هذا ما يُستشَم مما ورد عن الإمام السجاد عليه السلام في الصحيفة السجادية في دعاء ختمه للقرآن، قال (وفرقاناً فرقت به بين حلالك وحرامك)(1) .

ولا يعارض ذلك ما ورد من إطلاق الفرقان على الكتاب، حيث نزلت آياته متفرقة من حيث الزمان والمكان، فقد ورد في الإختصاص والعلل عن عبد يزيد بن سلام أن سأل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قائلاً: (فأخبرني هل أنزل عليك كتاباً؟ قال: نعم، قال: وأي كتاب هو؟ قال: الفرقان، قال: ولم سماه ربك فرقاناً؟ قال: لأنه متفرق الآيات والسور أنزل في غير الألواح وغير الصحف) (2) .

والذي يظهر من مجموع هذه الروايات أن الفرقان يطلق تارة ويراد به جملة الكتاب والقرآن، لكن بلحاظ التفرّق، فكما يطلق الكتاب بلحاظ الكتابة، والقرآن بلحاظ القراءة، كذلك يطلق الفرقان عليهما بلحاظ تفرّقه في النزول، ويطلق تارة أخرى ويراد به خصوص المحكم من الآيات القرآنية، وهو المراد به ظاهراً في هذه الآية المباركة ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ بقرينة الروايات المذكورة.

ووجه اختصاص الفرقان في هذه الآية بالمحكَم من القرآن فقط دون سائر كتب السماء، مع تصريح آيات أخرى بنزول الفرقان أيضاً على نبي الله موسى عليه السلام الآتي ذكرها، قرينة المقابلة في الروايات المذكورة، خصوصاً رواية الكافي، فعند التفريق بين القرآن والفرقان قال الإمام عليه السلام بأن القرآنَ الكتابُ بأجمعه وأما الفرقان فالمحكَم فقط، مع علمنا مسبقاً بأن القرآن فيه المحكَم والمتشابه، وهو ما سنأتي قريباً على ذكره مفصَّلاً، وذلك يفيد بأن المراد بالفرقان المحكَم من القرآن فقط دون سائر الكتب.
وينطبق على الفرقان ما ينطبق على الكتاب والقرآن سواء بالإطلاق الأول أو الثاني بالنسبة لما يتعلق بالإنزال والتنزيل، ففي الآية محل البحث هنا ذُكِر الأول ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ، بينما في مطلع سورة الفرقان ذُكِر الثاني ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (3) ، ولذلك يقال هنا ما قيل مفصَّلاً في البحث السابق حول الإنزال والتنزيل.

هذا هو الظاهر من الروايات، وصرّح به قلّة من المفسرين(4) ، في حين قال بعض منهم بأنه القرآن بأجمعه، كالطبرسي(5)  والقرطبي(6)  والترابي(7)  والشعراوي(8)  وابن عاشور(9) ، باعتبار أنه يفرق بين الحق والباطل، وتكرار ذكره تعظيم لشأنه وإبراز لخاصّيّة أخرى فيه(10) ، وأضاف الأخير بأن توصيف القرآن بذلك «تفضيل لهديه على هدى التوراة والإنجيل، لأن التفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهدي، لما فيها من البرهان وإزالة الشبهة»(11) ، وإنما تتم هذه الإضافة بناء على اختصاص هذه الصفة بالقرآن كلاًّ أو بعضاً، وأما بناء على القول بشمولها لسائر كتب السماء فلا، حتى لو قلنا بأن المقصود بالفرقان في هذه الآية خصوص القرآن الكريم، وهو الأقرب بحسب الظاهر، نظراً لنزول الفرقان أيضاً على موسى وهارون عليهما السلام، كما قال سبحانه ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ(12) ، ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ (13) .

وأما الشعراوي فأكّد بأن استعمال هذه الصفة يشير إلى أن القرآن سيعاصر مهمة صعبة، لأنها لا تأتي إلا في حال وجود معركة بين فريقين سواء كانت عسكرية أو فكرية، أي وجود حق وباطل، والقرآن هو الذي يميِّز بينهما. (14)  وهو في حدِّ كلام متين، ويتم سواء كان المقصود بالفرقان القرآن بأجمعه، أو المحكم منه، أو سائر الكتب السماوية.

وقال آخرون بأنه شامل لجميع كتب السماء، كالشيرازي(15)  والطباطبائي(16) ، واعتبره الأخير «الدين الذي يحكم بين الناس بالعدل مع ما ينضم إليه من المعارف ووظائف العبودية»(17) ، والوجه في هذا القولِ الآياتُ التي نصّتْ أيضاً على نزول الفرقان على نبي الله موسى عليه السلام. لكن الأقرب الإختصاص بالقرآن الكريم بقرينة الروايات كما بيَّنا ذلك قبل قليل.

وتفرَّد الرازي بالقول بأن الفرقانَ المعجزاتُ المرافقةُ لنزول الكتب السماوية والتي تثبت كون تلك ا لكتب من عند الله عز وجل، أي حتى يصدِّق الناس دعوة الرسل عليهم السلام ويميِّز الله عز وجل بينها وبين دعوة الكذّابين، أنزل على الرسل برفقة الكتب فرقاناً يدل على صحتها ويفرِّق بينها وبين الكتب المختلَقة(18) .لكن لا شاهد من آية أو رواية أو غير ذلك على هذا القول.

بالتالي فالأقرب أن المراد بالفرقان في خصوص هذه الآية المباركة، المحكَم من الآيات القرآنية. وسكون لنا لاحقاً بحث مستقل حول أسماء القرآن في القرآن والمائز بينها ودلالة كل اسم، إضافة لما سبق تقريره في بعض كتبنا الصادرة قبل(19) .

وعد بالتعذيب والإنتقام

بعد الحديث عن إنزال الكتب السماوية وأهدافها، صدر تحذير من الله عز وجل لعباده ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ، وهو عبارة عن عذابٍ وأصلُه الضرب ويستعمل لكل عقوبة مؤلمة(20) ، كما أنه شديد أي قوي(21) ، وصادر عن الله(22)  سبحانه الموصوف بالعزّة أي الذي يَقهر ولا يُقهَر(23) ، مع كونه منتقِماً والنِّقمة العقوبة والإنكار(24) . وسيأتي مزيد بيان لمعاني أسماء وصفات الله سبحانه وتعالى الواردة في الآيات الثلاث الأخيرة من سورة الحشر.

لكن الذي يلفت الانتباه هنا أن الله جلت قدرته بعد ذكره للكتب السماوية وأهدافها في هذه الآية وما قبلها، لم يخبرنا بالآثار الدنيوية والأخروية الحميدة المترتبة على اتّباع الكتب والعمل بما فيها، وإنما حذّر وبشدة من عواقب تركها والإعراض عنها، ولعل السبب في ذلك كون الآيات في سياق الجدل مع الخصم العازم على التكذيب على كل حال، كما يشهد له واقع اليهود والنصارى، بالرغم من تمام البيان والحجة، بالإضافة إلى أن الآية قبل ذلك بيَّنتْ أهم الآثار الإيجابية المتمثلة في الهدى. وسنمر لاحقاً على بحث مفصَّل حول الوعد بالعذاب الشديد من قبل الله سبحانه، على الرغم من كونه أرحم الراحمين، ولهذا أكتفي هنا بهذا المقدار من البيان.


1.الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين عليه السلام، ص194، مؤسسة الإمام المهدي(عج)/مؤسسة الأنصاريان للطباعة والنشر-قم، الطبعة الأولى 1411هـ. 2.الإختصاص، الشيخ المفيد، ص44، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع-بيروت، الطبعة الثانية 1993م. 3.الفرقان 1. 4.التدبر في القرآن، السيد محمد رضا الشيرازي، ص650، دار العلوم-لبنان، الطبعة الثانية 2010م. 5.مجمع البيان، مصدر سابق، ج1 ص524. 6.الجامع لأحكام القرآن، مصدر سابق، ج4 ص6. 7.التفسير التوحيدي، مصدر سابق، ص228. 8.تفسير الشعراوي، مصدر سابق، ج2 ص1267. 9.التحرير والتنوير، مصدر سابق، ج3 ص11. 10.تفسير الرازي، مصدر سابق، ج7 ص140. 11.المصدر نفسه. 12.الأنبياء 48. 13.البقرة 53. 14.تفسير الشعراوي، ج2 ص1267. 15.تقريب القرآن إلى الأذهان، مصدر سابق، ج1 ص311. 16.الميزان، مصدر سابق، ج3 ص9. 17.المصدر نفسه، ص10. 18.تفسير الرازي، ج7 ص140. 19.التفسير العلمي التربوي، الشيخ فيصل العوامي، دار الهادي- بيروت، الطبعة الأولى 2002م. 20.المصباح المنير، نقلاً عن التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مصدر سابق، ج8 ص79. 21.معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج3 ص179. 22.تكلمنا بتفصيل عن مفهوم لفظ الجلالة في تفسير سورة الحمد. 23.مفردات غريب القرآن، مصدر سابق، ص333. 24.لسان العرب، ج12 ص590.