تحرير الإشكالية:

لكي نسيطر على هذه الإشكالية، نحتاج لإستعراضها مدْرَسِيّاً، وذلك من خلال الفرز بين المدارس الفكرية المتناولة لها، وأما المناقشة فستكون عامة، لإيفائها بالغرض في المقام.

لو نتأمل في الجدل الدائر في الأوساط العلمية حول هذه الإشكالية، نستخلص متبنيات ثلاث، كانت سبباً لتشكّل ثلاث مدارس في الوسط الإسلامي:

الأولى: المدرسة العقلية

قد لا ترفض هذه المدرسة النص مطلقاً، ولكنها لا تعطي له وزناً في مقابل العقل، ولهذا فهي تتمسّك بالعقل عند التعارض بينه وبين النقل. ولكي تتضح لنا مباني هذه المدرسة، لابد من تصفّح مقولات رجالاتها، خصوصاً المعاصرين منهم.

لننظر مثلاً في مقولة لأدونيس جاءت في مقدمة كتاب «الإسلام والحداثة»، يقول: "ينبغي نقد النصيّة - المعيارية، نقداً معرفياً، والخروج إلى الواقع البحت. ينبغي الخروج من القول بأوّليّة النص. الأوّليّة هي دائماً للواقع وتحولاته.

دون ذلك، ستظل المعرفة العربية – الإسلامية إعادة إنتاج لنص ينطوي، وفقاً لإيمان أصحابها، على المعرفة المسبقة الكاملة والنهائية، لما كان وما هو كائن وما سيكون.

ستكون المعرفة، بعبارة ثانية، نوعاً من الإكتشاف لما ينطوي عليه النص، ونوعاً من تفسيره.

وسيكون دور العقل هنا مقصوراً على تدبّر الطرق التي تكفل فهم النص دون تحريف، ودون إقحام الرأي، أو قول شيء خارج النص. وفي هذا ما يؤسس بنية معرفية تلغي العقل من حيث هو استقصاء لعالم المادة.

وما يلغي العقل، يلغي الإنسان نفسه".[1]

يقول: "وما يلغي العقل يلغي الإنسان نفسه"، كلمة جديدة ونتفق معه فيها، لكننا نتساءل منه: وإلغاء النص ماذا يعني؟

إذا كان إلغاء العقل البشري المخلوق، يعني إلغاءً للإنسان، فماذا ينبغي أن يعني إلغاء النص الموحى من خالق العقل والانسان؟! ألا يعني ذلك إلغاءً للحقائق ولثمرة الوجود كله؟!

تأتي أيضاً في هذا السياق مقولات الدكتور حسن حنفي في موسوعته «من العقيدة إلى الثورة» فهو يؤسس لمذهبه الفكري بالقول بأن "الحجج النقلية كلها ظنية حتى ولو تضافرت وأجمعت على شيء أنه حق، لم يثبت أنه كذلك إلاّ بالعقل".[2]

ثم يسترسل في تأسيسه ليصل إلى التصريح بعدم إمكان الحصول على أي ثمرة معرفية من خلال النص، وأن الدور المتصوَّر للنص في هذه الحالة إنما هو منع العقل من تأدية وظيفته، فالنص في رأيه لا ينتج قضية معرفية، وأما العقل فهو قادر على إثبات كل شيء، فقد قال: "يبدأ الدليل النقلي من خارج العقل، وتكون وظيفة العقل مجرد الفهم في أحسن الحالات والتبرير في أسوأ الحالات. الدليل النقلي إذاً يقضي على وظيفة العقل في تحليل الوقائع، وعلى طبيعته المستقلة. وكيف يكون العقل وسيلة للمعرفة ويبدأ الدليل النقلي؟ وكيف يبدأ الدليل النقلي وحجته لم تعلم إلاّ بالدليل العقلي؟ وكيف إذا تعارض النقل والعقل فمن الحكم لا يكون إثبات العقل وتأويل النقل، فالعقل أساس النقل. إن النص لا يثبت شيئاً، بل هو في حاجة إلى إثبات، في حين لا يقف شيء غامض أمام العقل، فالعقل قادر على إثبات كل شيء أمامه أو نفيه".[3]

وهكذا أيضاً يتقدم الدكتور محمد عابد الجابري ليؤكد هذه النظرية من خلال تأسيسات أخرى، ويظهر على منهجه أنه يستعير العقل الوضعي الغربي، لينقد العقل العربي، وليدعو إلى إعادة تأسيسه انطلاقاً من الواقع الحسي والإجتماعي الغربي[4].

إنه ينطلق من مقولة أن "العلم لا يؤمن بمصدر آخر للعقل وقواعده غيره الواقع"[5].

ثم يفسر اصطلاح الواقع عنده، ليؤكد على ضرورة المباشرة بين العقل والتجربة المحسوسة فقط، وفي ذلك رفض صريح للعلاقة العضوية المفترضة بين العقل والنص، فيقول "وإذا نحن شئنا الدقه أكثر بالإستناد إلى التصوّر العلمي المعاصر لحقيقة العقل-قلنا مع جول ألمو ليست القواعد التي يعمل بها العقل هي التي تحدده وتعرفه، بل قدرته على استخلاص عدد لا نهائي منها هي التي تشكل ماهيته. والعقلانية بهذا الإعتبار، تغدو ليس الإيمان بمطابقة مبادئ العقل مع قوانين الطبيعة وحسب، بل الإمتناع بكون النشاط العقلي يستطيع بناء منظومات تتسع لتشمل مختلف الظواهر. وبما أن التجربة هي وحدها التي بإمكانها أن تفصل في مسألة المطابقة التي أصبحت تعني التحقق تجريبياً، فإن العقلانية المعاصرة هي عقلانية تجريبية وليست عقلانية تأملية كما كان الشأن من قبل"[6].

هذه مقولات لمجموعة من أعمدة هذه المدرسة، وهي تشكِّل خطاً عاماً للمدرسة العقلية التي يتصل كثير منها بمدرسة الإعتزال، باعتبارها المبلوِر الأساس للنظرية العقلية القائمة على أساس تقديم العقل على النص بواسطة التأويل، كما هو مدّعى رجالات المعتزلة القدامى.

وإن كان في تلك المقولات شئ من المجاملة للنص، أو التأدّب في التصريح بضرورة تجاوزه، فهناك مقولات أخرى أكثر تشدّداً كالتي تنص على ضرورة "تحرير العقل من سلطان الدين، وإعمال العقل دون معونة من الآخرين، وجعل السلطان المطلق للعقل، بحيث لا يكون هناك سلطان على العقل إلاّ للعقل وحده"[7].

وجميع هذه المقولات مع اختلاف أساليبها، بل ومستوى متبنيات قائليها، إلاّ أنها تثبت نتيجة واحدة، تتمثل في التأكيد على حاكمية العقل، وتخليصه من سائر الضغوط، والنص على رأسها.

ولاشك أن لهذه النظرية وهذا النمط من التوفيق بين النقل والعقل، ظروفاً ودوافع أدّتْ إلى إثارته ومن ثم تبنيه، كما إن له أدلة وبراهين شرعية وعقلية تشكّل الخلفية الحقيقة له، بل وله ثمرات عملية عديدة، ما يعني أنه ليس مجرد فرضية عملية، وإنما نظرية قابلة للسيلان على مستوى الواقع العملي، وبالرغم من كل ذلك، فإننا لن نتحول نحو الحديث عن هذه التداعيات، لأن مرادنا الأساس مجرد التنويه إلى شكل النظرية، بالمستوى الذي يتناسب مع سياق البحث.

فالشكل الأساس لهذه النظرية، أنها تعتبر العقل هو الحاكم المطلق في المجال المعرفي، وأن لا حاكم عليه حتى النص، فالعقل هو الذي يستنتج الأصول العلمية والتفريعات الحكمية والمناهج النظرية والعلمية، من خلال الإستعانة بالواقع والتجربة المحسوسة، وقد اعتمد هذه النظرية تيار واسع قديماً وحديثاً، سواء في الوسط الفلسفي أو الكلامي.

ولو نتتبع براهين أرباب هذه المدرسة، نجد أنهم يؤكدون على صحة مدّعاهم بما ورد في القرآن الكريم من حثٍّ على التعقل والتفكر، ويعتبرون ذلك دليلاً على إطلاق هذه الصلاحية من جهة شمولها لكل الموارد، ومن جهة استعداد العقل المطلق في استخراج الأفكار وتصحيحها.

ويظهر ذلك بوضوح في ردود ابن رشد على الغزالي، في كتابيه فصل المقال، وتهافت التهافت، حيث أنه يكثر من القول في موارد عديدة من الكتابين، أن الدين دعا للنّظر والتأمّل.

________________________________________

[1]- «الاسلام والحداثة»، مجموعة كتاب، ندوة اقامتها مجلة «مواقف» و «دار الساقي» في لندن العام 1989، طباعة دار الساقي، الطبعة الاولي 1990، ص 10.

[2] - من العقيدة الي الثورة. حسن حنفي، ج 1، ص 368، دار التنوير للنشر، بيروت 1988 م.

[3] - المصدر نفسه، ج 1، ص 372.

[4]- إعمال العقل من النظرة التجزيئية الى الرؤية التكاملية، لوي صافي، دار الكفر، دمشق، الطبعة الاولي 1949 ه- / 1998 م، ص 42.

[5]  - تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، ص 24، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1989.

[6]- المصدر نفسه، ص 25.

[7] - مدخل إلى التنوير، الدكتور مراد وهبة، ص 67، 69، 175، 179، 189، طبعة القاهرة 1994 م.