تمرّ على بعض المجتمعات أزمنةٌ تزدهر فيها العلوم كالعصور الإسلامية الأولى وما بعد العصر الوسيط في العالم الغربي، وازدهار العلوم يؤدي إلى تطوّر الحياة وإحداث فتوحات علمية كبيرة تطوّر الحياة.
يمكننا أن نجعل من زمننا المعاصر عصرًا ذهبيًا للعلوم بمجموعة أمور وأهمّها إيقاظ السؤال العلمي العميق، وذلك بالنظر إلى أنّ المتداول بيننا ليس علمًا بل نحتاج للبحث عن الحقيقة أكثر لنتطور، فالاقتناع بأنّنا قد توصّلنا للحقيقة المطلقة سيدخلنا في منطقة الركود بلا حاجة للسؤال والإبداع والتطوّر، إذن السؤال العلمي الجاد هو محرّك عجلة التطوّر في كلّ زمان ومكان لذلك لا بدّ أن يتحوّل لثقافة اجتماعية فيُشجّع على السؤال ولا يُهمل ولا يهمّش مهما كان الخط الذي يمر به السؤال.
وعندما نعود للقرآن، نجد أنّ كثير من التعاليم القرآنية جاءت نتيجة للسؤال، سواءً كان السؤال تعجيزيًا أم استفهاميًا أم استنكاريًا أم تعليميًا، أنّى يكون اتجاه السؤال يأتي القرآن ليعطيه قيمة علمية، حتى بالعودة والنظر للأقوام السابقة: فهؤلاء قوم موسى ((وإذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)) بالرغم من كِبر سؤالهم، لكن الله استجاب لسؤالهم وأعطاهم دليل علمي واقعي كإجابة عن سؤالهم، السؤال لا يمكن أن يُطرح لأنّ الله ليس جسمًا ولا عرضًا، لكنهم لم يكونوا يفهموا هذا المعنى فضربتهم الصاعقة ليس كعذاب فقط بل كدليل أنّ هذا لا ينسجم مع البناء الأساسي للكون، فأماتهم الله ثم أحياهم، لكنّهم طلبوا من موسى (ع) أن يسأل الله بنفسه لكي ينأى عن العذاب، فسأل موسى (ع) رغم معرفته بأنّه لن يراه، فجاء الدليل الواقعي ((قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا))، فالله والنبي (ع) استجاب لأسئلة اليهود.
وهذا منهج أهل البيت (ع) فقد روي أن قومًا حضروا عند أمير المؤمنين (ع) وهو يخطب بالكوفة ويقول: سلوني قبل أن تفقدوني، فأنا لا اسأل عن شيء دون العرش إلا أجبت فيه، لا يقولها بعدي إلا مدع أو كذاب مفتر فقام إليه رجل من جنب مجلسه، فقال رافعًا صوته لعلي (ع): يا أيها المدعي لما لا يعلم و المتقدم لما لا يفهم أنا سائلك فأجب.
قال: فوثب إليه أصحابه وشيعته من كل ناحية وهموا به، فنهرهم علي (ع) وقال: دعوه ولا تعجلوه، فإن العجل والطيش لا يقوم به حجج الله، ولا بإعجال السائل تظهر براهين الله تعالى. ثم التفت إلى السائل فقال: سل بكل لسانك ومبلغ علمك أجبك إن شاء الله تعالى بعلم لا تختلج فيه الشكوك، ولا تهيجه دنس ريب الزيغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فالشرائع السماوية والمنهج القرآني يعززان ثقافة السؤال، ويقدّمان الدليل العلمي المحسوس كجواب للأسئلة المطروحة مهما كانت، بل أنّ كثير من المباني العقائدية لدينا جاءت عن طريق السؤال، وهذه هي ثقافة السؤال المحرِّكة للتطوّر العلمي وبذرة ازدهار العلوم وتقدّم الحياة.